على مدار الساعة

الشفافية ودورها في تفعيل العملية الديمقراطية (3/3)   

17 فبراير, 2024 - 20:20
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

يتضح مما تم نقاشه في الجزأين السابقين أن للشفافية دورا أساسيا في تفعيل العملية الديمقراطية، وأن مستوى الشفافية في بلادنا حاليا ليس مرضيا للأسباب التي تطرقنا لشرح بعضها في الأجزاء السابقة. لكن ما الذي يجب عمله من أجل تحسين مستوى الشافية في المستقبل؟

 

أولا:

 اختيار عبارة "تحسين مستوى الشفافية" ليس اعتباطيا أو عشوائيا لأنها (الشفافية) مطلب نوعي كيفي ليس له حد أدنى أو أقصى مثل سعة مخزن بنزين السيارة الذي يتراوح من فارغ تماما إلى ممتلئ لا يتسع لأي قطرة إضافية، أو عدد أيام الأسبوع التي لا تقل عن واحد ولا تزيد على سبعة.  فأعلى ما يمكن أن نطمح له هو أن نحسن مستوى الشفافية نسبة إلى مرجع مكاني أو زماني معين، وفقا لمعايير، واضحة، ومحددة. فكل وعود تحقيق أو تقييم الشفافية "الكاملة" المطلقة هي مجرد أوهام وأحلام.  فأولا وقبل كل شيء يجب أن نحدد المعيار الذي سوف نعتمد عليه في قياس مستوي الشفافية حتى نتمكن من تقييم مدى تقدمنا -أو تراجعنا- في اتجاه تحقيق هذا الهدف بموضوعية لا يختلف عليها اثنان.

 

ثانيا:

الشفافية ليست مسؤولية الجميع وليست مسؤولية الإدارات الحكومية فقط، فرغم أن الإدارات الحكومية تتحمل المسؤولية الأكبر في هذا النطاق لأنها هي مصدر معظم القرارات والبيانات التي تهم المواطن وتؤثر على مجريات حياته اليومية مثل الاقتصاد والتشريع والصحة والتعليم، إلا أن هناك جهات أخرى تشترك في تحمل هذه المسؤولية تضم الأحزاب السياسية، الصحافة، المؤسسات التجارية الخاصة، إضافة إلى الخبراء والمهنيين.

 

1- المؤسسات الحكومية
أصبح من السهل في الفترة المعاصرة توفير الخدمات على المواقع الإلكترونية ووضعها في متناول الجميع. يجب على جميع الإدارات الحكومية بناء مواقع إلكترونية توفر الإحصائيات الأساسية عن تفاصيل نشاطاتهم وإنجازاتهم، إضافة إلى أرقام هواتف وعناوين بريدية للإجابة على الاستفسارات.  هذا سيكلف مصاريف إضافية، ولكنه ضروري لتحسين مستوى الشفافية، وتعزيز ثقة المواطن في نزاهة القائمين على هذه المؤسسات، كما يزيد من تقدير المواطن للمجهودات التي يتطلبها توفير هذه الخدمات.

 

فمثلا يمكنني الحصول على نصوص جميع العقود التي أبرمتها الحكومة الموريتانية مع شركات استغلال النفط والمعادن من مصادر خارجية في حين أنها (العقود) ليست متوفرة من المصادر الحكومية الوطنية.  المثال الثاني هو أن إحصائيات وفيات وإصابات وباء كوفيد-19 لا زالت منشورة على موقع وزارة الصحة بعد مضي أربع سنوات. لكن في نفس الوقت لا توجد أي إحصائيات عن إصابات ووفيات الأمراض الفتاكة الأخرى مثل السل والسرطان وأمراض القلب والشرايين وكأن كوفيد-19 هو الخطر الوحيد الذي يهدد صحة المواطنين والذي يجب أن يكونوا على دراية بمجرياته. أما المخاطر الصحية الأخرى فجميعها تحت السيطرة الكاملة ولا داعي للاهتمام بها.

 

فيتوجب على جميع المؤسسات الحكومية توفير ملخص إحصائيات الأمراض والوافيات (وغيرها مما يهم المواطن والمتخصصين) وحفظ تفاصيل هذه الإحصائيات في قواعد بيانات في متناول الجميع، او محصورة على من يمتلك الشروط المطلوبة للتوصل إليها مثل المتخصصين والباحثين الأكاديميين-إن تطلب الأمر.

 

2- البرلمانيون والسياسيون
يجب أن تلعب الأحزاب السياسية بشكل عام، والمعارضة بشكل خاص دور المراقب الأمين الذي يوفر النقد البناء ويجلب انتباه الجمهور والحكومة إلى القضايا الملحة التي يتم إهمالها أو التغاضي عنها. كما يجب ان يكونوا (حكومة ومعارضة) شركاء يتعاونون من أجل خدمة، وتنوير وتوجيه الرأي العام بعيدا عن أساليب التضليل والمغالطة وتسويق وترويج الدعايات والشائعات الزائفة.

 

فاذا كان الشغل الشاغل لكل من الحكومة والمعارضة هو إذاعة ما يشوه صورة الجانب الآخر وتضليل المواطن، فسوف تتبدد جميع آمالنا في تحقيق أي تقدم. لكن الأخطر من ذلك هو أن هذه العادات السيئة تخلق انقسامات مصطنعة في المجتمع وقد تعمق الخلافات الموجدة سابقا، وتشعل نار الفتنة بين الأمة.

 

3- الصحافة
للصحافة دور فريد (بل رسالة مقدسة) في توفير المعلومات والأخبار حول كل ما يهم المواطنين ويؤثر على حياتهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويكتسب هذا الدور أهمية خاصة في عصرنا الحاضر حيث أصبح كل شخص يمتلك جهازا يُمَكِّنه من تصفح مواقع الأخبار المرئية والمسموعة والمكتوبة على مدار الساعة. لكن دور الصحافة (ومن يتطفل على المهنة من أمثال هذا الكاتب) لا يتعدى مجرد استنساخ ما يورده هذا المصدر أو ذاك، ليشمل استقصاء مدى صحة المحتويات، إضافة إلى وضع هذه المحتويات في السياق المناسب حتى تكتمل الصورة لدي متلقي الخبر.

 

فمثلا، تناقلت وسائل الإعلام الوطنية نبأ إعفاء جمهورية الصين الشعبية الواردات الموريتانية من الرسوم الجمركية، مما يوحي بأنها تتفضل على الدولة الموريتانية بمميزات خاصة من أجل سواد عيونها (موريتانيا). لكن الواقع أن الصين انتهجت سياسة إعفاء الواردات الإفريقية من الرسوم الجمركية منذ بعض الوقت، بدءًا بإحدى وعشرين دولة خلال السنتين الماضيتين، وصولا إلى المجموعة الأخيرة المكونة من ست دول تضم بلدنا، في شهر ديسمبر من 2023. وربما كان هذا التقصير نتيجة لانعدام المصادر المادية والبشرية التي تتطلبها هذه المجهودات الإضافية، إلا أنه يبقى تقصيرا نأمل أن يصحح يوما من الأيام حتى تتمكن وسائل إعلامنا من القيام بدورها على أكمل وجه.

 

4- المؤسسات التجارية
قد لا تكون هذه المؤسسات ملزمة قانونيا بتوفير معلومات كافية عن مصادر تمويلها (بما فيها العقود الحكومية)، وعدد عمالها، وأرباحها، وتكاليف تسييرها، ولكنها ملزمة أخلاقيا بفعل ذلك ما دام الأمر لا يتعلق بأسرار المهنة. هذه المعلومات جزء أساسي من الشفافية لتشجيع روح التنافس بين المستثمرين وإتاحة الفرصة للمستهلك لدعم او مقاطعة المنتوجات والمؤسسات التي لا تحترم قيمه أو لا تتبع سياسات عادلة ومنصفة اتجاه المستهلكين أو العمال.

 

5- الخبراء والمهنيون
هذه الفئة مطالبة بحكم خبرتها ومعرفتها المتخصصة بتبسيط المعلومات المعقدة بأمانة حتى يتسنى لغير المتخصصين فهمها وإدراك دلائل وتداعيات الظواهر والممارسات التي لها تأثير ملموس على حاضر أو مستقبل البلد مثل التغيرات المناخية وعلاقتها بالتصنيع والتلوث البيئي والصحة العامة. هذه الفئة أيضا تسند إليها مهمة تحليل البيانات (إذا توفرت) واستخدام طرق علمية ومنهجية لتقييم الارتباط بين سياسة، أو قرار، أو ظاهرة معينة بمستوى تردي، أو تحسن الأمور العامة مثل الصحة والاقتصاد والبيئة والثروات الحيوانية والبحرية (على سبيل المثال لا الحصر). هذا دور في غاية الأهمية لأن ما قد يحقق نتائج إيجابية في بلد آخر من أدوية وسياسات حكومية قد لا يكون له نفس التأثير في بلدنا نتيجة للاختلافات الاجتماعية والمناخية وغيرها.

 

كما أنه لهذه الفئة دور هام في فضح الأسرار التي قد تحاول جهة ما التعتيم عليها مثل ارتفاع حاد في مرض معين، واستغلال شبكة المواصلات للنصب والاحتيال، وتسويق منتوجات غذائية أو طبية مضرة بالصحة، أو غيرها من الأمور التي تتطلب الاطلاع على مصادر لا تتوفر إلَّا لدى أشخاص معينين بحكم مناصبهم أو معرفتهم التقنية.

 

والخلاصة هي أن المواطن كوحدة مكونة للمجتمع فاعل أساسي في دعم المبادرات الوطنية وتحقيق الأهداف المرسومة مثل النمو الاقتصادي، أو المؤملة مثل الوعي الثقافي والنضج السياسي، والتي تعتمد كلها على توفر المعلومات اللازمة بصورة حيادية وشفافة. فانعدام المعلومات والشفافية لا يؤدي إلى فشل العملية الديمقراطية أو تجويفيها من متطلباتها الأساسية فقط، لكنه أيضا أكبر عائق للتنمية وتحقيق التقدم الاقتصادي والسياسي والثقافي.

 

هذه السلسة لا تمثل إلا قطرة في بحر في هذا الصدد، فهذا الموضوع يتطلب دراسات معمقة وبحوثا أكاديمية موسعة. لكني أردت لفت الانتباه إلى هذا الموضوع المهم من خلال تسجيل بعض الأفكار المختصرة التي قد تساعد على توضيح العلاقة الوثيقة بين الشفافية وتوفر المعلومات من جهة، وتفعيل العملية الديمقراطية وإنجاح المبادرات الوطنية من جهة ثانية.