على مدار الساعة

الشفافية ودورها في تفعيل العملية الديمقراطية (2/3)   

17 فبراير, 2024 - 19:22
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

ما هو مستوى الشفافية في موريتانيا في الوقت الحاضر وما ذا يعني ذلك فيما يتعلق بسير العملية الديمقراطية؟.

 

 قبل أن نجيب على هذه الأسئلة أود أن أنبه إلى أن أي تقييم منصف يجب أن يكون نسبة إلى مرجع معين مثل المكان أو الزمان أو ما شابه ذلك من المعايير المناسبة. فمن حيث المكان، تحتل موريتانيا الترتيب 130 عالميا من بين 180 دولة في سنة 2022 مقارنة بالسينغال 72، مالي 173, الجزائر 116, والمغرب 94، حسب ترتيب منظمة الشفافية الدولية، التي هي منظمة غير حكومية تتخذ من مدينة برلين الألمانية مقرا لها. 

 

وللأمانة، فمن المرجح أن تكون هذه المنظمة متحيزة ضد الدول التي لا تتحلى مجتمعاتها بالقيم الفكرية والسياسية والأخلاقية الغربية. ورغم ذلك تبدو فوارق ملموس بين ترتيب موريتانيا ودول الجوار. أما من حيث الزمان فقد شهد ترتيب موريتانيا تحسنا طفيفا من 128 في 2021 مما يوحي بأنها تسير في الاتجاه الصحيح وإن كان ذلك ببطء.

 

ومن حيث مدلول مستوى الشفافية على مدى تفعيل العملية الديمقراطية فهو يعني بكل اختصار أنه لا زالت أمامنا عقبات جسيمة يجب أن نعمل جاهدين من أجل تذليلها وتجاوزها.  طبعا قد يكون لمن يعارض أو يساند الرئيس الحالي وحزبه الساسي آراء مغايرة أحترمها وأعترف لهم بحقهم في ذلك. وفي نفس الوقت، أود أن أسجل الملاحظات التالية التي قد تساعد في جعل هذا النقاش أكثر موضوعية ومنهجية.

 
- أولا: من الطبيعي، بل من المتوقع أن يكون هناك اختلاف بين المعارضة والحكومة في المذاهب السياسية وتفسير الواقع وظروف البلد. فليس هناك أي مبرر لوجود المعارضة في غياب هذه الاختلافات. وكل محايد ومهتم بمصلحة الأمة يشجع هذا الاختلاف ويفتخر به كمظهر صحي من مظاهر الشفافية والديمقراطية، طالما أن أفعال وأقوال كل من الاثنين (المعارضة والحكومة) تعكس رغبة جادة قي النهوض بالبلد، وتفان في العمل من أجل تحقيق مكاسب تخدم البلاد والعباد. لكننا (كمواطنين وناخبين) في نفس الوقت لسنا أغبياء لدرجة تجعلنا نقدس سياسيين (من أي تيار) ونرتقي بهم لدرجة تجعلهم فوق الشبهات أو معصومين من التقصير، أو ارتكاب الأغلاط. فيتوجب علينا أن نبتعد عن التعصب الأعمى لهذا أو ذاك، وأن نعمل كحَكَم عادل يساند ويدعم من هو أحق بذلك بعيدا التشيع والتطرف.

 

- ثانيا: رغم هذا الاختلاف، يجب على أحزاب الحكومة والمعارضة معرفة أن صراعاتهم ليست صراعات وجود وأن واجبهم الأول والأخير هو العمل من أجل المصلحة العامة والابتعاد عن كل ما من شأنه الضرر بها. لكن على الجمهور أيضا معرفة أنه قد تصعب مقاومة إغراء التطرف السياسي لأنه أسرع طريقة لتحقيق الشهرة "والنجومية" على منصات التفاضل (نعم، أقصد منصات التفاضل لأنه هو الوصف الأنسب) الاجتماعي مما يشجع السياسيين على التزمت والتعصب في مواقفهم بدلا من السعي لإيجاد سبل للتعاون مع من يخالفهم في الرأي ابتغاء للمصلحة العامة.

 

- ثالثا: مستوى تفعيل الديمقراطية يتناسب مع مستوى وعي الناخبين بمسؤولياتهم ودورهم في انتخاب ممثليهم ليس كواجب مدني فقط، بل أيضا كأمانة في أعناقهم سوف يحاسبون عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون. فالفساد لا يتوقف على من يجلس في مكتب فخم أو يشغل منصبا مهما فقظ، بل إنه يمتد ليشمل من يدلون بأصواتهم لانتخاب من ليس كفئا. لكن قيام المواطن بدوره على الوجه المطلوب (كما سبق شرحه في الجزء الأول) يقتضي أن يكون الجمهور على درجة كافية من الاطلاع والوعي، والتي بدورها تتطلب توفر المعلومات الكافية بصورة شفافة؛ عنصران قد يكون المجتمع الموريتاني يفتقر إليهما في الوقت الحاضر. الأمر الذي قد يفسر مدى تعقد المشاكل التي نعاني منها حاليا والتي لا يمكن للرئيس أو رئيس الوزراء تغييرها بإصدار مرسوم أو قرار تنفيذي. (للأمانة فقط وليس دفاعا عن أي منهما).

 

- رابعا: "اللِّي ماهو في الديگه ارجيل". الوضعية الراهنة للبلد ناتجة عن تراكمات عقود من التقاليد الاجتماعية والممارسات السياسية، والعوامل الدولية، ولا يمكن تغيرها (وضيعة البلد الراهنة) بين عشية وضحاها. حقيقة من لا يدركها لا يستحق أن يتولى أي مسؤولية قيادية. هذا لا يعني أنه يجب علينا الكف عن انتقاد السياسات والممارسات التي لا تخدم المصلحة الوطنية، أو أن نستسلم لواقع لا يتناسب مع طموحات شعبنا. لكنه يتطلب منا أن نكون واقعيين وأن نساهم بتقديم حلول جدية قابلة للتطبيق بطريقه عقلانية، ومدروسة، تقوم على معلومات دقيقة ومعطيات خالية من التضليل والمغالطة والدعاية المزيفة.  

 

كما يجب أن نتذكر أن "كطره كطره ايسيل الواد" وأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. فرغم أن مستوى الشفافية اليوم لا زال ناقصا أو لا يكاد يكون منعدمًا، إلا أن هناك مؤشرات واضحة تدل على تحسن ملموس يجب أن نعترف به دون أن يمنعنا ذلك من الطموح إلى مستقبل أفضل، و -الأكثر أهمية- المساهمة في بناء هذا المستقبل.  فمن السهل أن نحمل الحكومة -أو شخص الرئيس- المسؤولية الكاملة عن كل ما جرى في الماضي، ويجري في الحاضر، وما سيجري في المستقبل.  لكن الأصعب من ذلك هو أن نكون صريحين مع أنفسنا وأن نعترف (بشفافية) أنه لكل واحد منا ضلع في الواقع الذي نعيشه وأن الحالة العامة للبد ما هي إلا حصيلة إجمالية لكل المجهودات والمعتقدات الفردية، وأن دور الحكومة وإداراتها في ذلك – رغم أهميته القصوى– يبقى محدودا.