على مدار الساعة

خلاصات ثلاث

12 أبريل, 2022 - 23:53
الأستاذ محمد جميل منصور

تابعت متأخرا بعض النقاشات التي فجرتها التدوينة المسيئة والمستهزئة حول حديث نزول الله سبحانه وتعالى، وقرأت لمن تحدث عن المجاز، ومن ناقش حجية السنة، ومن جدد التزامه بالثلاثي المحلي المشهور (المالكية، الأشعرية، الجنيدية) ورأيت أن أسهم هنا بثلاث خلاصات، إحداها أصولية، والثانية في العقيدة، والثالثة عامة:

 

1. الخلاصة الأصولية:

في أجواء التشكيك في السنة، يبالغ بعض الأفاضل في جعلها في نفس الدرجة مع القرآن الكريم ويتجاوزون الترتيب الذي درج عليه الأصوليون للأدلة وأصول التشريع، ويحرص البعض على التقليل من مكانة السنة وحجيتها مشددين أن مصدرية القرآن هي الأساس، ورافعين الصوت بعدم إفادة أحاديث الآحاد للعلم واليقين.

 

والظاهر والله أعلم أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وأن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من صميم الدين الملزم للمسلم في كل زمان ومكان {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} {...فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}.

 

والسنة مبينة للقرآن شارحة له {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، ومع ذلك فهي منشئة للأحكام والتوجيهات والضوابط الشرعية "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب" كما يقول أول مصنف في أصول الفقه الإمام الشافعي، وقد شدد الإمام الشوكاني على من ينكر ذلك "الحاصل أن ثبوت حجية السنة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في دين الاسلام" ومن التكلف والتعسف اختلاق مشكلة بين القرآن والسنة، وهذا الذي يذكره البعض من وجود قرآنيين لا يقبلون السنة أو يتحفظون منها، أو يشككون فيها، لا اعتبار له فمن رفض السنة رفض القرآن، ومن أعرض عن رسول الله أعرض عن الله.

 

أما جعل السنة في درجة الكتاب فمخالف لما استقر عند أهل العلم والتحقيق من ترتيب أدلة التشريع، وقد عبر عن ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته عندما قرر "رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار" وساق على ذلك أدلته وحججه، ورغم أن العبارة التي اشتهرت عند العلماء "السنة قاضية على الكتاب" لا تعني العلوية بل هي اختصار لـ: تفصيل السنة لمجمل الكتاب، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، فإن الإمام أحمد بن حنبل لم يسترح لهذه العبارة وقال لا أجرؤ أن أقول ذلك، ولكن أقول : السنة مبينة للكتاب، والسنة منها ما هو عن الله ومنها ما هو اجتهاد وتقدير من الصادق المصدوق "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل"  كما في حديث مسلم الذي عنون الإمام النووي باب شرحه: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي".

 

أما موضوع حديث الآحاد - دون الانجراف وراء تيار التشكيك فيه والتخفف منه، وهو مصدر كثير من الأحكام والتوجيهات - فموضوع علمي يحتاج نظرا وسعة باع وأفق، فهو يفيد العمل والظن دون العلم واليقين، والإمام الشافعي يؤخره في الترتيب "الأصل القرآن والسنة وقياس عليهما، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد" وقد نقل محقق "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" عن أئمة السلف في عدد من العصور تأكيد هذا المعنى، ويصرح الحافظ ابن حجر في الفتح شارحا باب ما جاء في خبر الواحد "....قال الكرماني: ليعلم إنما هو في العمليات لا في الاعتقاديات" ومن هنا لزمت وسطية النظرة بطرفيها: فإلغاء أحاديث الآحاد أو التخفف منها، إلغاء لأحكام كثيرة وتوجيهات عديدة، وانتبه يرحمك الله أنه يفيد العمل، وجعله في مرتبة الكتاب أو المتواتر من السنة خطأ علمي بين، وانتبه يرحمك الله فهو لا يفيد العلم.

 

2. خلاصة في الاعتقاد:

وموضوعها الحقيقة والمجاز في أحاديث الصفات ونحوها، والظاهر أنه ألبس على كثير من الناس ما قرره متأخرو السلفية باعتباره تفويضا، مع أنهم يصرحون بالإجراء على الظاهر وبالإثبات، وهم بذلك يباينون منهج السلف الذي استقر بين تفويض تام ومطلق دون إجراء ولا إثبات أو تأويل تسمح به قواعد اللغة وله ما يسنده من النصوص.

 

لقد أورد الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كنابه القيم "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" ستين حديثا تتناول متشابه الحديث وقضايا الصفات، وأوضح الصحيح منها والضعيف والموضوع، ثم أول كل ما ورد فيها بما ينسجم مع قواعد لغة العرب، وما يليق بالله تنزيها وتعظيما.

 

والتأويل الصحيح مستقر عند أهل العلم فالنووي في شرح حديث مسلم "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني..." يقول:  "وقال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له...".

 

ونقل ابن حجر في الفتح عن ابن عباس رضي الله عنهما تأويل الساق في قوله تعالى "يوم يكشف عن ساق" بالشدة، ونقل عنه (ابن عباس) الطبري تأويل "أيد" الواردة في قوله تعالى {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} بالقوة، ونقل الحافظ البيهقي عن الإمام أحمد أنه تأول قوله تعالى {وجاء ربك} أنه جاء ثوابه، ونقل البيهقي أيضا عن الإمام البخاري أنه قال "معنى الضحك الرحمة".

 

وكثيرة هي النقول التي تؤكد التأويل عن السلف الصالح.

 

والمجاز مضطرد في اللغة، والرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وقد نقل ابن كثير في تفسيره تعليقه صلى الله عليه وسلم على ما فعل عدي بن حاتم بعد نزول قوله تعالى {...وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} من أخذه عقالين أحدهما أسود وآخر أبيض، ووضعهما تحت وسادته وجعل ينظر إليهما فلما تبين له الأبيض من الأسود أمسك، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك علق عليه قائلا "إن وسادك إذن لعريض! إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل".

 

وقد علق الإمام ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" على الحديث القدسي المتفق عليه "إن تقرب عبدي إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، قال ابن قتيبة: "وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من اتيانه، فكنى عن ذلك بالمشي والهرولة".

 

من ناحية ثانية ثبت عن السلف التفويض ومن أشهر عباراته ما قاله الإمام أحمد بن حنبل عندما سئل عن أحاديث الصفات "نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى"، وابن حجر يختار هذا المسلك: "والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها والاكتفاء بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه"، وورد عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة في إحدى النسخ المدققة "وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال" وفي هذا الكلام تفويض بنفس التأويل.

 

إذن لا إشكال في تفويض دون إثبات أو إجراء على الظاهر أو تأويل لا يتجاوز ما تسمح به اللغة وينسجم مع التنزيه ولا يفضي إلى التعطيل.

 

ولأننا نتحدث في نازلة معينة، وبسبب نص معروف، فإن السلامة تكون في التفويض والحكمة تكون في التأويل، من أراد أن يسلم فليفوض ومن أراد أن يقنع فليأول، والله الموفق والحافظ من الزلل.

 

3. خلاصة عامة:

في حديث قواه ابن القيم لتعدد طرقه جاء "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

 

تواجه الأمة على المستوى الفكري هذا التحدي الثلاثي:

- غالون يحرفون

- مبطلون ينتحلون

- جاهلون يتأولون

 

فأما الغالون فيغيرون بالتحريف، وأما المبطلون فينتحلون بالإضافة، ويفسد الجاهلون بالتأويل.

 

من يلقي نظرة على المكتوب والمسموع والمرئي حول قضايا الإسلام لن تخطئ عينه جهود ومساوئ هذا الثلاثي على دين الله وصورته المشرقة التي تجمع الاعتدال والوسطية مع القوة والتشبث بالأصول، وتزاوج بين الثوابت والمتغيرات، وتعرف للتأويل قواعده ومجالاته ومدياته.