على مدار الساعة

محمد عالي شريف.. المثقف الذي يضيق ذرعا بالتنميط

21 سبتمبر, 2019 - 15:51
بابا ولد حرمة ـ إعلامي

لا يحتفظ الوزير والأكاديمي المثقف الملتزم محمد عالي شريف بكثير من الود للأنظمة الشيوعية الثورية التي حكمت بعض بلدان العالم الثالث بعد موجة استقلال الستينيات.

 

وتكاد مذكراته التي صدرت في أبريل الماضي نسختها العربية، بعد النسخة الفرنسية، عن دار الساقي البيروتية في ثلاثمئة وثمان وتسعين صفحة بعنوان "سيرة من ذاكرة القرن العشرين،" أن تكون، رغم ما جالت فيه من أماكن وأزمنة، في أغلبها رصدا لمواقفه الصارمة ضد الانجراف في ممارسات التنميط الشيوعية ومحاكمةً لتلك الأنظمة وتبيانا لـ"تناقضاتها الجمة."

 

وسيكون لـ"تناقض" هذه الأنظمة الرافعة لشعار محاربة الإمبريالية والمانحة في ذات الوقت حقوق استغلال مناجمها لكبريات الشركات الرأسمالية الأمريكية تأثيره الخاص في مسار الكاتب المولود بقرية لابي" في غينيا كوناكري، المستعمرة الفرنسية حينها، لأسرة تنحدر من المنطقة الشرقية في موريتانيا.

 

فبعد إكمال دراسته الابتدائية بتفوق سنة 1952، وانتقاله إلى ثانوية العاصمة كوناكري، ولاحقا إلى ثانوية "فان فولنهوفن" في داكار، مكنت علاقات نظام شيخو توري الاقتصاديةُ والسياسية الوطيدة مع واشنطن محمد عالي وطلابا آخرين من غينيا كوناكري المغضوبِ عليها من باريس، من الحصول على منحة دراسية في الولايات المتحدة.

 

ودّع محمد عالي خلفه غينيا وقد أحكم عليها شيخو توري قبضته، وغادر إلى أمريكا في سبتمبر سنة 1961 حاملا معه ما حصّل في المدارس الفرنسية التي كانت منهاجها غنية بالآداب وتاريخ الأفكار، وتركز على غرس "الأدوار الحضارية الكبرى التي أدتها فرنسا خدمة للبشرية،" لتدفع بالشبان إلى استلهام نمط الحياة الفرنسية ومحاولة الاندماج فيها بشكل تام.

 

وكانت بضاعته وافرة من المعارف الدينية وعلى اطلاع واسع بالتراث والأدب العربي، ومتابعا حثيثا لما يجري من أحداث في المنطقة العربية عبر إذاعة بي بي سي، ومتفاعلا معها بروح انعتاقية تحررية.

 

وفي الولايات المتحدة التي استقر بها ثلاث سنوات درس في بدايتها اللغة الإنجليزية في قرية وينوسكي، قبل التحاقه بجامعة بوسطن العريقة، اكتشف محمد عالي على وقع الإيقاعات الهادئة للبلوز نضالات السود الأمريكيين من خلال إليجا محمد ومارتن لوثر كينغ، والتقى بمالكوم إكس. وكان شاهدا خلال هذه الفترة على أحداث مفصلية من أهمها تداعيات أزمة خليج الخنازير التي وضعت العالم على شفير حرب نووية، واغتيال الرئيس الأمريكي جون كندي سنة 1963.

 

وقد يكون لهذه الإقامة التي ختمها الكاتب بالحصول على بكالوريوس الآداب من جامعة بوسطن تأثيرها على رؤيته وتقييمه لما يجري في المعسكر الاشتراكي الذي يستفيض في عرض ما يعانيه من اختلالات كبرى في الفصل الأول الذي حمل عنوان: "تطلعات الشباب،" رغم اعترافه له ببعض الإنجازات العملاقة.

 

كما ستجعله هذه الإقامة في أمريكا يستصغر مستوى العمران والتمدين في فرنسا التي حط فيها الرحال قادما من أمريكا في أغسطس 1964. لكن فرنسا الديغولية لن يعوزها ما تشبع به "تطلعات الشباب" التي يحملها محمد عالي في تلك الأيام، فلديها دائما ما تبهر به حتى القادمين من الولايات المتحدة. لقد كانت باريس حينها تعيش على وقع نقاشات سياسية وفكرية تعيد "قراءة الأسس الماركسية محاولة هضم بداية الاحتضار الطويل للحزب الشيوعي وأقصى اليسار" وكان جان بول سارتر صاحب نظرية الوجودية قد انتظم في التيارات الطلابية لأقصى اليسار، ليحمل لاحقا لواء مظاهرات الطلاب لسنة 1968.

 

وفي خضم هذه النقاشات التي تربط الممارسة السياسية بما يروج من أفكار وفلسفات، واصل محمد عالي مساره الأكاديمي في جامعة السوربون العريقة بأطروحة عن الرق ومخلفاته في المجتمعات المسلمة بغرب إفريقيا تحت إشراف عالم الأنثروبولوجيا جورج بالانديه. كما عايش خلال إقامته في باريس، وفق ما يسرد في الفصل الثاني المعنون بـ"ميلاد العالم الثالث" أصداء بروز حركات فكرية وأطر سياسية كانت تحاول توحيد الكيانات الدولتية الناشئة في المستعمرات السابقة سواء عبر الانتماء القاري لإفريقيا مع كوامي نكروما وباتريس لومومبا أو الإيديولوجي القومي في العالم العربي مع جمال عبد الناصر، أو عبر طريق ثالث مستقل عن المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي كان اليساري المغربي المهدي بن بركة الذي فقد في باريس في أكتوبر 1965 أبرز رواده.

 

لا يحدثنا محمد عالي عن الأسباب ولا الظروف التي اكتنفت مغادرته لباريس المبكرة نحو موريتانيا التي يسرد تفاصيل مسارها الوليد في فصل بعنوان "موريتانيا الناشئة". وبعد عمله لفترة في سفارة الإمارات العربية المتحدة بنواكشوط كمترجم، سيشق سريعا طريقه نحو أعلى هرم الإدارة الموريتانية مسلحا بتكوين أكاديمي نادر في تلك الأيام، ومعززا بتدخل شخصيات من قبيلته لدى رئيس الجمهورية حينها المختار ولد داداه. فقد بدأ العمل ملحقا في ديوان الرئيس سنة 1967 ثم انتقل للتدريس في الثانوية الوطنية، ليعود مديرا للثقافة في الرئاسة سنة بعد ذلك، قبل أن يعينه ولد داداه في سبتمبر 1969 أمينا عاما للرئاسة، وهو المنصب الذي سيبقى فيه حتى انقلاب العاشر من يوليو سنة 1978 الذي أطاح بنظام المختار.

 

وخلال هذه السنوات التسع ظل محمد عالي في قلب الأحداث التي عرفتها موريتانيا بداية السبعينيات من مراجعةٍ للاتفاقيات المدنية والعسكرية مع فرنسا، وتأميم لشركة ميفرما وخروج من منطقة الفرنك الإفريقي وتأسيس الأوقية الموريتانية. وهي إجراءات وتدابير يسردها محمد عالي مبديا إعجابه بالروية والتؤدة اللتين اتسم بهما ولد داداه وهو يحرر موريتانيا من الاستعمار الجديد. كما يقدم الكاتب خلال هذا الفصل صفحات مضيئة من الدبلوماسية لا يكاد القارئ يصدق أن تلك الدولة الناشئة التي تقف معزولة "في مواجهة العواصف والأمواج" اضطلعت بها.

 

 فقد نجح ولد داداه إبان رئاسته الدورية لمنظمة الوحدة الإفريقية 1971-1972 حتى قبل انضمام موريتانيا للجامعة العربية في إزالة الموقف الملتبس لدى كثير من الدول الإفريقية من العدوان الإسرائيلي على فلسطين. وكانت نواكشوط خلال هذه الفترة كعبة يؤمها قادة النضال التحرري في إفريقيا والعالم، وتمنح جواز سفرها لقادة منظمة التحرير الفلسطينية والحزب الإفريقي لتحرير غينيا الاستوائية وجزر الرأس الأخضر المناهض للاحتلال البرتغالي، فكان آميلكار كابرال زعيم هذا الحزب يحمل هوية تشهد على ميلاده بمقاطعة الركيز جنوبي موريتانيا.

 

وكانت علاقات المختار وطيدة بعدد من القادة الكبار مثل الرئيس الصيني شوان لاي، وبلغت حظوته لدى نورودوم سيهانوك رئيس كمبوديا أن تدخل لديه سنة 1967 ليسمح للمسلمين هناك ببناء مسجد في العاصمة بنوم بنه وممارسة شعائرهم، ونجح بدعم من ملك السعودية فيصل بن عبد العزيز، في ضم الصومال وجزر القمر وجيبوتي إلى الجامعة العربية.

 

وقد كان محمد عالي فاعلا رئيسيا في صناعة هذا الزخم الدبلوماسي وصانعا أساسيا له، فكان الموفد والمبعوث إلى عدد من الملوك والرؤساء من أبرزهم العاهل المغربي الحسن الثاني الذي استقبله أكثر من اثنتي عشرة مرة. وساهم بثقافته الواسعة وتأهيله الأكاديمي في إعطاء صورة مشرقة عن هذا البلد الناشئ كما تبرز ذلك الرسالة التي حررها ردا على مطالب سنغور بضم الضفة اليمنى لنهر السنغال. فقد تضمنت هذه الرسالة الموقعة من ولد داداه سنة 1974، والتي صيغت بلغة أدبية رفيعة، عرضا لتاريخ ضفة النهر وسيطرة إمارتي الترارزة والبراكنة عليها، ككيانات سياسية معترف بها، كما تشهد على ذلك المعاهدات الأوروبية، وفصلت الرسالة كذلك في المراسيم والمقررات الفرنسية بدايات القرن العشرين، والمواثيق والبروتوكولات الدولية في ترسيم الحدود في حالة مجرى مائي. وقد أدهشت الرسالة الرئيس السنغالي واعترف لاحقا لمحمد عالي شريف أنها أعانته على تهدئة الأمور. ولا يجد الكاتب أي حرج في الاعتراف بفشل بعض المهمات الدبلوماسية التي كان يرافق الرئيس فيها، كما حدث في اليونان وتركيا واليابان.

 

ورغم نجاح الكاتب في إبراز الألق الدبلوماسي لنظام ولد داداه، فإن عرضه لبعض السياسات الداخلية لم يكن بذلك القدر من الإقناع والتماسك. ينفي محمد عالي عن الرئيس ولد داداه صفة الدكتاتورية ويسمه بالاعتدال كلما سنحت له الفرصة، لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن كل السلطات تركزت في يديه منذ منتصف الستينيات على مستويي الحزب والدولة، ويبرر ظهور أطياف معارضة، وفق منطق لا يخلو من التبسيط، بمطامح شخصية أو سوء تفاهم لم يكن من الممكن تجنبه. فيصف قراءة حركة الكادحين للواقع بأنها كانت مبتسرة من أجل تبرير وجودها وشعاراتها التي يرى أنها لا تنطلق من خصوصية موريتانيا. ولا يرى أي مبرر للمخاوف التي أثارها مسار التعريب لدى بعض النخب الفلانية الفرنكوفونية. ويبدو مما يقدم من دفاع عن مقاربة ولد داداه للعبودية أن هذه المقاربة كانت أبعد ما تكون عن الراديكالية، حيث نصت على عدم تشجيع الأرقاء على مغادرة أسيادهم بل على محاولة تطوير العلاقة بين الطرفين إلى عمل مأجور، وفق ما ينقل الكاتب.

 

ويؤكد محمد عالي، مقدما أمثلة متعددة، على الصورة المتداولة لولد داداه كرجل عفيف اليد عن المال العام يعزف حتى عن أخذ الهدايا الشخصية التي يقدمها له الملوك والرؤساء، ويأمر بصرفها في الخزينة العام للدولة. لكن يبدو أن هذا السلوك المتعفف عن موارد الدولة لم يكن سائدا لدى عموم الطبقة السياسية والموظفين السامين في نظامه. فقد اضطر الكاتب أثناء توليه منصب الأمين العام للرئاسة إلى تحرير أكثر من اثنتي عشرة رسالة تحذر الموظفين من استغلال سيارات الدولة خارج المهمات الرسمية.

 

وانسجاما مع موقفه من الأطر التعبوية والسياسات ذات المنبع الاشتراكي أو الأصالة الإفريقية التي تبنتها بعض البلدان، يبدي الكاتب امتعاضه من التدخل المتزايد لحزب الشعب الحاكم في الإدارة. وقد سعى دائما إلى كبح جماح ولد داداه كلما رآه ينجرف نحو تبني سياسات شعبوية كارتداء الزي الثوري لتنزانيا أو المغالاة في تقليد نموذج الاندماج بين الحزب والدولة لدى شيخو توري في غينيا. ويبدو أن محمد عالي حاول البقاء بعيدا عن الجهاز الحزبي، وسعى إلى التنصل مما أوكل إليه من مهام تكوينية في المعهد الوطني للتدريب والدراسات السياسية، الذراع الإيديولوجية لحزب الشعب، فقد تحدث بمرارة عما حملته برامج التكوين التي كان آباء الأسر المسنون ملزمين بحضورها حتى أوقات متأخرة في الليل من تعطيل لعمل الدوائر الحكومية وما أشاعت من شحنة دعائية غوغائية. وقد ألح على المختار من أجل تخفيفها.

 

ولن تمهل الأحداث المتسارعة منذ منتصف السبعينيات الأمين محمد عالي والرئيس ولد داداه في الإمساك طويلا بدفة "موريتانيا الناشئة." فتبعات الجفاف أضحت تخنق اقتصاد البلد ذي الموارد المحدودة، وعقدت حرب الصحراء التي تتبع الكاتب جذورها وفصولها بدقة وهجماتُ البوليساريو من وضع نظام ولد داداه. وعند الحديث عن هذه الحرب، يجرد الكاتب قلمه ضد ما يراه خيانة ارتكبها موظفون في الإدارة وقادة في الجيش دفعتهم انتماءاتهم القبلية إلى الاصطفاف مع البوليساريو وتقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي لها، ما مكنها من تكثيف هجماتها ضد المصالح الموريتانية. ولن تحل سنة 1978 حتى كانت الأرضية مهيأة أمام الرائد ذي التوجه القومي جدو ولد السالك الذي نجح في المناورة بالإبلاغ عن مؤامرة انقلابية وهمية أزيح على إثرها بعض الضباط السامين من مناصبهم. وقد نجح جدو في هندسة هذا الانقلاب في العاشر من يوليو سنة 1978 بقوة عسكرية جلبها من منطقة آوسرد في الصحراء الغربية، لكنه وجد نفسه بعد ذلك بفترة وجيزة خارج دائرة النفوذ.

 

وعند الحديث عن هذا الانقلاب وما خلف من إعادة تشكل في المشهد السياسي وتبدل في ولاءات النخب، يكرر الكاتب نفس الأسئلة التي دارت في ذهن المختار ولد داداه وهو يستمع عبر المذياع إلى أطر حزب الشعب يلعنون نظامه. وهي أسئلة تفترض أن ولاء هذه النخب لنظام ولد داداه كان ينطلق من أرضية غير التبعية لنظام يمسك بزمام الأمور ويحتل كرسي الرئاسة الذي انتزعه الآن العسكر واكتسبوا به نفس الوجاهة. وعند حديثه عن شرعية هذا النظام، لا يحدد لنا طبيعة الشرعية التي يمكن أن يتمتع بها نظام كانت صناديق الاقتراع آخر اهتماماته.

 

ويتبع الكاتب في الفصل الخامس فترة حكم العسكر والتغيرات التي عرفها هرم السلطة، ويصب جام نقده على الفوضوية التي طبعت تسيير الرئيس هيدالة للبلاد وما رافقها من زرع للرعب في النفوس عبر هياكل تهذيب الجماهير، معترفا له ببعض الإنجازات مثل إنشاء جامعة نواكشوط وتجريم الرق. ويُـبين عن التزام نادر خلال أحداث 1989 وما تبعها من تصفيات عرقية في حق العسكريين المنحدرين من الفلان، فقد كان محمد عالي أول الموقعين على "وثيقة الخمسين" التي طالبت بالتحقيق في هذه التصفيات. وفي بقية فصول الكتاب يستعرض علاقات موريتانيا عبر خريطة العالم، مبديا إعجابه بالحسن الثاني وبحنكته السياسية، ومتبرما من الشطط والغرور اللذين طبعا سلوك حكام الجزائر. كما يشيد بالسخاء الذي منحت به دول عربية مثل السعودية والكويت وليبيا تمويلاتها لموريتانيا في أوقات صعبة من تاريخها بعد تأميم ميفرما وأثناء حرب الصحراء.

 

ولم تكن مذكرات محمد عالي سردا للأحداث والسيرة الذاتية للكاتب، بل كانت كذلك تحليلا واستشرافا لواقع العالم الثالث الذي تعثر في شراك التخلف، ومساءلة نقدية للحضارة الغربية التي لا ينظر الكاتب إلى بعض إفرازاتها مثل المثلية الجنسية بكثير من الاحترام. ولم يخل الكتاب من نبرة اعتذار عما قد يكون قد طبع فترة المختار ولد داداه من إخفاقات أو أخطاء، فحسبُ نظام الرجل أنه صمد في وجه العواصف والأمواج التي كانت تهدد هذا الكيان الوليد، وسعى إلى ترسيخ سيادة الدولة في بلد كان أحد شيوخ قبائله منتصف السبعينيات، كما ينقل الكاتب، لا يدرك أن موريتانيا قد استقلت وأضحت لها عاصمة تسمى نواكشوط منذ خمسة عشر سنة.