لم يتوقع أي مراقب لقمة البحرين أن تسمى بالاسم المناسب لها "قمة الحزن" أو "قمة الحداد" أو "قمة العار" نتيجة لما يعانيه الشعب الفلسطيني في هذه الأيام من إبادة جماعية، وما انضاف إلى التقتيل من تشريد وتهجير ليلا ونهارا.
ولم يكن أي مراقب يتوقع أن يعلن قادتها المقاطعة الاقتصادية أو غلق المعابر الجيوسياسية، أو أن يعلن القادة النفير ويحركوا الجيوش والأساطيل التي ينفق عليها إنفاقا غير محدود. والعادة أن الجيوش العربية تتحرك وتبلى البلاء (الحسن) ضد شعوبها أو بعضها ضد بعض، أو في صراع داخلي على السلطة كما هو جلي في بعض الدول العربية للأسف، أو ضد قادتها ليعلن البيان الأول في انقلاب دموي (أو أبيض أو أخضر) أو لقمع شعوبها إن تاقت للحرية أو الديمقراطية.. غير أن كل احتمالات التحرك واردة؛ باستثناء تحركها ضد أعداء الأمة.
ولما اختار القائمون على الجامعة العربية تسمية القمة بقمة البحرين كان لزاما أن نبحث في معاجم اللغة والعَروض عن أي بحرين نعني؛ فليس بحر الطويل لأن الطويل "له دون البحور فضائل…"، وليس الكامل لأنه "كمل الجمال من البحور الكامل..." وليس الوافر (بحور الشعر وافرها جميل…) ولا البسيط، ولا…
ولو سمح لنا رائد العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي لأضفنا تفعيلات وبحورا (ساكن مسكين مسكن، وخائف مخوف خواف، وعامل عميل معمل وراكع مركع ذليل مذلول).
وسألنا أهل الجغرافيا عن أي البحرين تعني، فكان الجواب أنه ليس المحيط الأطلسي، ولا البحر الأبيض، واجتهد أحد الفقهاء في التخصص ففكر وقدر وقال: لعلهما البحر الميت والبحر المميت، وأردف قائلا: الميت بحكم القرارات الصادرة عن القمة؛ فهي ميتة قبل الولادة كعادتها، فلم تصل إلى تطلعات الشعوب العربية ولا الشعوب الغربية، وميتة كما ماتت قرارات من قبلها؛ إذ لا ضامن لحياتها، فعادة ما تكون ميتة قبل ولادتها، ومميتة لتطلعات وآمال الشعوب.
ومن الجدير بالذكر أنها - كعادتها- من قبيل "نطالب وندين ونشجب ونستنكر ونرجو ونسعى وينبغي للمجتمع الدولي أن…" تلك قرارات منذ النشأة ضعيفة في شكلها ومضمونها، لم تُخِفْ عدوا ولم تغث ملهوفا.
ودعانا حب معرفة معني قمة البحرين إلى استنطاق الواقع الذي نعيشه هذه الأيام؛ فكان الرد واضحا؛ وهو وجود بحرين يبغي أحدهما على الآخر في حركة منتظمة عبر التاريخ.. وهو أن بحر الباطل بحر لجي في صراع دائم مع بحر الحق. والحقيقة أنه مهما هاجت أمواج الباطل وتعالت فستذهب جفاء، وأن بحر الحق مهما خفتت أمواجه فهو ينفع الناس ويمكث في الأرض؛ ففي قراءة بسيطة للتاريخ يشهد بأن الشعب الفلسطيني يسبح في بحر من الدماء.. لتتحول هذه الدماء إلى عزة وشرف وإباء، للإنسانية كافة، ولمن تصبو نفسه إلى الانعتاق والحرية، وليسجل التاريخ التخاذل والخذلان الذي طبع الإنسانية في هذا العالم المتوحش الغريب الذي تفترس فيه قوى الشر الشعوب دون رادع إنساني ولا أخلاقي ولا قانوني، على مرأى ومسمع الجميع. وسجل يا تاريخ أن رجالا في غزة العزة ومن حولها تكالبت عليهم قوى الشر ومنعتهم الماء والخبر والدواء وحليب الأطفال.. ورغم ذلك مرغوا أنوف الأعداء والخونة في التراب، ودنسوا وجوههم (إن كانت تقبل المزيد) وأصبحت غزة العزة لغزا، فكيف استطاع الغزيون - رغم المعاناة - الصمود ومقاومة قوى الشر مجتمعة؟
{ٱلذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ) صدق الله العظيم.
فتحية لكل الفلسطينيين عامة، وأهل غزة ورفح ومن دار في فلكهم. وتحية لأرض الرجال اليمن والمقاومة في لبنان والعراق وكل مقاوم للظلم أينما كان. والتحية التحية لدولة جنوب إفريقيا، والتحية للحراك الطلابي في أمريكا وبريطانيا وفرنسا.. والحياة للجامعات والمعاهد والمدارس العربية والشعوب العربية.. "ولكن لا حياة لمن تنادي"!