على مدار الساعة

تَذْكِــيرٌ في وجه الطوفان: لما نقتل الدَّوْلَة

9 أبريل, 2024 - 11:38
القاضي هارون عمار إديقبي

دون تعمق؛

 

بالنظر إلى الجدل الدائر حول الفتاوى المتناثرة والمنثورة من هنا وهناك المتعلقة بدفع زكاة الفطر لإخوتنا المرابطين في غزة خصوصا والمضطهدين من المسلمين في شتى البقاع.

 

ودون الخوض في أحقيتهم بذلك منطقا وواقعا، إلا أن المسألة أعمق لتداخل الديني والسياسي والاجتماعي فيها، تتطلب بشكل عاجل مراجعة آلية الدفع وقنواتها وأولويتها، مما يستدعي منا الوقوف على بعض المسائل الهامة:

 

الأولى: أن زكاة الفطر نُدب دفعها للإمام العادل الذي هو اليوم في ظل الدولة الوطنية رئيس الدولة لقول خليل: (وَنُدِبَ دَفْعُهَا لِلْإِمَامِ الْعَدْلِ وَعَدَمُ زِيَادَةٍ). وفي الحطَّاب (وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وُجُوبُهُ وَعَلَّلَ بِخَوْفِ الْمَحْمَدَةِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ نَدْبَ الِاسْتِنَابَةِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَعَ أَنَّ خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ فِيهَا أَقْوَى (وَ) نُدِبَ (عَدَمُ زِيَادَةٍ) عَلَى الصَّاعِ؛ لِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ مِنْ الشَّارِعِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ كَزِيَادَةِ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ الْمُعَقِّبَاتِ عَلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ) انتهى منه: (انظره في ج: 2 / ص: 107).

 

الثانية: أن الزكاة تم تنظيمها وأسندت جبايتها لهيأة مخصوصة تدعى بيت الزكاة الموريتاني وذلك بموجب المرسوم رقم: 2023 - 026 بتاريخ: 27 يناير 2023 القاضي باستثناء حساب تحويل خاص يدعي: بيت مال الزكاة الموريتاني.

 

وبموجب مقرر مشترك بين وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ووزير المالية، يحمل الرقم: 0391 صادر بتاريخ: 12 إبريل 2023 يحدد تشكيلة وتنظيم عمل بيت مال الزكاة الموريتاني.

 

فبموجب هذه النصوص فإن الزكاة في الجمهورية الاسلامية الموريتانية تسيرها جهة وحيدة هي المجلس الأعلى للزكاة (تراجع التفاصيل في النصوص).

 

 

الثالثة: أن هذه النصوص حددت طريقة جباية الزكاة وأين توضع والجزاءات المترتبة على الإخلال، وعينت لجانا خاصة بذلك وحددت طرق استردادها عندما تدفع لغير المستحق. وعليه يكون من اللازم احترام الإجراءات المنصوص عليها وإلا كانت حبرا على ورق..

 

علما، أن المجلس الأعلى للزكاة يضم هيئات عديدة من ضمنها هيئات الرقابة على تحويل الأموال خوفا من غسل الأموال واستخدام الرأس المال الوطني في مجالات جرمية كالإرهاب وتبييض الأموال والتمويل السياسي غير الشرعي للمنظمات والهيئات الجمعوية والسياسية. وبناء عليه تمَّ إشراك البنك المركزي باعتباره الهيأة الرقابية الأولى على التداول النقدي الداخلي والخارجي.

 

بالإضافة إلى أن هذا المجلس يضم ممثلين عن الجمعيات العاملة في مجال الزكاة والعمل الخيري (ليست لدي معلومات عن تعيين المجلس الأعلى للزكاة)، لكن القيام بمهام رسمية أسندها المشرع إلى هيئات مخصوصة يعد جرما يعاقبه القانون الجنائي كما هو معروف.

 

الرابعة: أن الجهة الوحيدة التي يخول لها الدستور الموريتاني والقوانين الوطنية إصدار الفتوى هي المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، وذلك بحسب المادة: 94 في فقرتها الأخيرة الجديدة، وبحسب القانون النظامي رقم: 014/2018 بتاريخ: 15 فبراير 2018 المتعلق بالمجلس الاعلى للفتوى والمظالم. والذي أعلن المجلس الدستوري مطابقته للدستور الموريتاني.

 

يحدد هذا القانون تشكيلة المجلس الأعلى للفتوى ومهامه ويحدد امتيازات رئيسه التي تماثل امتيازات وزير وامتيازات أعضائه التي تماثل امتيازات مكلف بمهمة برئاسة الجمهورية... لقد كلفوا بالإفتاء وفق ذلك.

 

ومن بين المهام التي أسندت إليه إبداء الاستشارة الفنية لرئيس الجمهورية وللحكومة وللأفراد العاديين مع التذكير أن هذا المجلس يصدر فتاويه وفق الفقه المالكي فقط. طبقا للمادة: 4 من هذا القانون النظامي.

 

وعليه تكون الجهة الوحيدة التي أسندت لها مهمة الإفتاء في هذه المواضيع وعلى رأسها الزكاة من حيث دفعها وقيمتها وإلى من ستدفع وكيفية دفعها تعود الى هذه الهيأة.. فلماذا نسمع فتاوى فردية من هنا وهناك فهي إما أن تكون من علماء ينبغي أن يكونوا ضمن تشكيلة المجلس أو من غيرهم ينبغي أن تطبق في حقهم المقتضيات الزجرية الواردة في القانون الجنائي.

 

الخامسة: أن مقتضيات القوانين المتعلقة بالفساد وغسل المال وتمويل الارهاب ترتب إجراءات خاصة بنقل الأموال وجمعها وتنشئ لجنة خاصة بالتحريات المالية (الوحدة) ولجنة لمكافحة غسل الأموال، وعليه فإن جمع الأموال من طرف خصوصيين وجمعيات خيرية يخالف هذه المقتضيات ويخرج على التوصيات المكرسة في القرارات الأممية وتوصيات GAFI التي تلزم الدولة الموريتانية، هذا بالإضافة إلى ما سينتج عنها من استهداف فيما بعد للمنظومة القبلية التي لا يجوز أن تمتد خارج النطاق الاجتماعي الداخلي بمعنى أن لا تكون القبيلة آلية أقوى من الدولة من حيث التدخل المالي والمواقف الخارجية، وهذا ما تكرسه التصرفات في الفترة الأخيرة التي وقع فيها تنافس تذكيه العواطف الصادقة ولكن عواقبه الاجتماعية والسياسية والثقافية لم تحظ بكثير من الحزم والتدبر والتبصر.

 

إن ما تقوم به الدولة من ضغط خارجي ومن تسجيل مواقف دبلوماسية خلال المؤتمرات التي حضرها صاحب الفخامة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني ومن مواقف داخلية باركتها الدولة هي مواقف تجسد وقوف الأمة الموريتانية والتحامها الصادق والعفوي الجاد وبجميع ألوان الطيف الوطني مع قضية إخوتنا المرابطين على أكناف بيت المقدس وهي مواقف تجسد موقفنا جميعا من ما يحصل في نواحي عسقلان.

 

لكن أن يتم اختطاف هذا الدور واستبداله بدور القبيلة أو الجماعة الذي ينبغي أن لا يتعدى النطاق الاجتماعي المحلي وأن لا يطفو على موقف الدولة الذي يقدره رئيس الجمهورية العاكس الأوحد لمواقف الأمة الموريتانية سواء تعلقت بالدعم المالي أو السياسي أو الدبلوماسي للمقاومة الفلسطينية، فهو لعمري خطأ ما فوقفه خطأ سنجني عواقبه لاحقا.

 

كما أن ترتيب الأولويات في مسألة تقديم الدعم ينبغي أن يعود للدولة أولا وأخيرا.. ماذا يضير لو أشركنا فيها الأقربين من ذوي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وفي سبيل الله (الغازي في سبيل الله كما في الطبري والأحاديث الصحاح) ألم يقل الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

 

صدق الله العظيم.

 

اللهم تقبل الشهداء وتجاوز عنَّا وعنهم وأجزل الأجر لمن وقف معهم بصدق وإخلاص.