على مدار الساعة

أربع وعشرون ساعة في شارلوتسفيل.. عندما يدفع الصحفي المال للمصدر

19 سبتمبر, 2023 - 14:24
بقلم المصطفى ولد البو - كاتب صحفي

في عام 2017، كانت مدينة شارلوتسفيل الصغيرة في ولاية فرجينيا مسرحا لمواجهات دامية بين نازيين جدد ومجموعات تؤمن بتفوق العرق الأبيض، استخدموا فيها الدهس بالسيارات وإطلاق النار في وجه بعض من ساكنة المدينة ممن خرجوا مناهضين للعنصرية والشعارات المرفوعة في ذلك اليوم.

 

شهدت الصحفية الأمريكية نورا نوس كل هذه الأحداث العنيفة، وكشخص أقام من قبل في المدينة ودرس في جامعة ولايتها وعمل كمراسل محلي فيها، فقد كان من السهل عليها تتبع خيوط الأحداث والعمل على نقل صورة كاملة عنها، وبعد فترة وجيزة، قررت نورا فجأة أن تؤلف كتابا حول أحداث ذلك اليوم، لأنها اعتبرت أنه "مشروع قريب من قلبها".

 

لقد بنت فكرة ومحتوى كتابها على شكل مقابلات مع أبطال ذلك اليوم من محتجين وناجين ورجال دين وسياسيين وغيرهم، يسردون فيها شهاداتهم ومشاهداتهم بعدها يتم إفراغ هذه القصص في كتاب اختارت له كعنوان "24 ساعة في شارلوتسفيل: مقابلة تأريخ شفوي حول التصدي لدعاة تفوق العرق الأبيض".

 

إلى هنا كل الأمور طبيعية، صحفية تتمتع بخبرة وحنكة، تؤلف كتابا حول قصة عاشتها ميدانيا، لكن عندما بدأت تحديد مصادرها والاتفاق معهم لينقلوا لها ما شاهدوه في ذلك اليوم من ذلك الصيف الساخن، هنا في هذه المرحلة بالذات ارتكبت نورا ما ترى أنه خطأ مبرر يستحق النقاش، معتبرة أنه قد سال حول جوانب منه الكثير من الحبر فعلا، بينما يرى صحفيون آخرون أنه مسيء لمهنة الصحافة وللعاملين في هذا الحقل بشكل عام، والحديث هنا حول اعتراف الصحفية نورا بأنها قامت بدفع أموال لمصادرها مقابل الحديث إليها، وتصف تلك اللحظة بالقول "لقد شعرتُ بمغص حاد وأنا أفتح تطبيق الدفع الإلكتروني تمهيدا لإرسال المال للمصدر"، لكن ذلك الشعور سرعان ما اختفى، لقد كانت المرة الأولى التي أقوم بها بذلك، ورغم أن جمعية الصحفيين المهنيين في الولايات المتحدة ومعها الكثير من الروابط الصحفية ينظرون إلى ما قامت به نورا على أنه  تجسيد حقيقي لما يطلق عليه "صحافة دفتر الشيكات" المهدد الأكبر لممارسة جمع الأخبار ونقلها وإهانة للمهنة بأكملها، إلا أن نورا ترى أنه إذا كان دفع المال للمصدر غير أخلاقي وضد مواثيق العمل الصحفي، إلا أن جعل مصدر يجلس لساعات متحدثا عن وقائع وقصص وجعله يستعيد أكثر لحظاته حزنا وتوترا ثم الاستفادة وحصد الجوائز الهامة من وراء سرد معاناته وتركه يرحل بعدها دون تعويض ليس أخلاقيا أيضا، ولهذا تعتبرها معضلة تستحق الدراسة بدل الحكم عليها من زاوية واحدة، معلنة تشكيكها في هذا المبدأ، وتتمنى من خلال ما قامت به أن تشعل جذوة نقاش جاد حول هذا الموضوع.

 

تقول نورا - مصرة على موقفها - إنها قرأت بنهم حول موضوع تعويض المصادر من الرواة الذين عاشوا قصصا وأحداثا ذات بعد إنساني، ووجدت أنها ممارسة شائعة في هذا الصدد، واستحضرت نورا جزء من التاريخ، معتبرة أنه من التناقض أن نسهم في إسكات صوت السكان الأصليين قبل قرون بذريعة تفوق العرق الأبيض ونسهم في أيام نتشدق فيها بالمساواة وحرية التعبير، بنفس الطريقة في تكميم أفواه ذوي البشرة الملونة، مؤكدة أن تشجيع هؤلاء على الحديث ولو ماديا لا يتعارض مع مبادئ الصحافة، مستأنسة في هذه النقطة برأي لمتخصص في التأريخ الشفوي وأستاذ في جامعة كولومبيا العريقة، قال فيه إن كل شخص يستحق الحصول على تعويض مالي مقابل وقته، وأن نوعية المصادر التي لجأت إليهم نورا عادة أشخاص لا يتمتعون بمزايا مادية وينتمون لفئات مهمشة.

 

ونقلت نورا عن صحفي سوري قوله إن صحفيين أجانب حضروا إلى مناطق نزاع في سوريا ودفعوا مئات الدولارات للسكان للحديث معهم، رغم أن هؤلاء السكان، مستعدون لقول ما تريده مقابل الحصول على ما يسدون به رمق أطفالهم الجائعين وليس هذا خطأ هذه العائلات، وإنما خطأ من وضع المال على الطاولة بهذه الطريقة، تقول نورا.

 

ومن المفارقات التي تصفها نورا بالمضحكة، أنها كانت ما تزال تعمل في شبكة سي أن أن أثناء تأليفها للكتاب، وأجبرتها الشبكة على إضافة جملة تقول "في حين يعتبر تعويض المصادر ماليا هو أفضل وسيلة لإنجاح المقابلات الشفوية، إلا أنه ليس من مبادئ الصحافة المهنية، وبالنسبة لي، فأنا لم أعرض أبدا تعويضا ماليا عن مقابلة أو عن معلومات طوال فترة عملي كمنتجة في شبكة سي إن إن" لقد تبرأوا مني بطلبهم هذا تقول نورا، ورغم ذلك تؤكد أنها مضت قُدما في مشروعها وجلست لساعات امتدت لأيام فأشهر مع مصادرها، حتى اكتملت أمامها الصورة، وفيما يتعلق بالدفع لهم، أوضحت أنها أرسلت لكل مصدر التعويض المتفق عليه، مؤكدة أنها لم تسمح لهم بالاطلاع على المحتوى المستخدم والمحذوف ولم تعطهم نسخة من الكتاب مجانا، قائلة إن عليهم شراءه إن أرادوا قراءته.

 

وبينما تشيد نورا بكتابها وترجع الفضل في اكتماله لمصادرها ولخطوة الدفع لهم بشكل خاص، ويؤكد داعموها أنه لولا الدفع للمصدر لما اطلع العالم على فظائع سجن أبو غريب، إلا أن الأصوات المناهضة لهذا الأسلوب تتعالى باستمرار، حيث قال أحد الخبراء "تعلمنا من خبراء الاقتصاد، أننا إذا أردنا المزيد من أي شيء فلنرفع سعره، وعندما يدفع الصحفي مقابل المعلومة بدل الحصول عليها مجانا، فإننا سنتفاجأ كل صباح بمئات الأشخاص يحملون معلومات للبيع، أمام كل مقر صحيفة أو موقع إلكتروني".