على مدار الساعة

الكودالوجيا وصناعة التأثير

17 أبريل, 2024 - 20:33
المصطفى ولد البو - كاتب صحفي

يقول خبراء إن عملية الاتصال تبدأ حينما يقرر شخص ما أن يستخدم رمزا لغويا كلمة كانت أو إيماءة أو إشارة أو أي رمز يحمل معنى، بهدف إيصال معان معينة إلى شخص أو أشخاص آخرين، ويقصد بالمعاني أي استجابات داخلية خاصة بالشخص من صور ذهنية أو تفسيرات أو مشاعر أو مفاهيم كالتي تثيرها فينا الكلمات التي نعرف دلالاتها. وتكتمل عملية الاتصال حينما تتوافق تلك الاستجابات الداخلية للمعاني الموجودة لدى مستقبل الرسالة إلى حد ما مع المعاني التي أراد إيصالها من قام بالاتصال (منشئ الرسالة). وكمهتم بمجال الاتصال وصناعة التأثير، تثير انتباهي دائما بعض النماذج التي تحاول أن تجسد ترجمة عملية لمفهوم وعناصر ومكونات هذا المجال الهام والمرتبط بشكل وثيق بالمهارة والدقة والتخطيط.

 

من هذه النماذج الناشط الموريتاني على تطبيق التيكتوك "كودا صال" Koda Sall  والذي يعتبر حسب وجهة نظري المتواضعة من أذكى صناع المحتوى الذين ظهروا على وسائل التواصل الاجتماعي في موريتانيا، لقد أمضيت فترة وأنا أتصفح مقاطعه وردوده وعبارات الوصف التي يختارها لعنونة أو التعليق على بثوثه، لقد أسس كودا ما يمكن تسميته بــLa Kodalogie  وهي عملية اتصال خاصة به، استخدم فيها أدواته بشكل محترف ومنظم، فمكنته من تجاوز عتبة المليون متابع في وقت قياسي، وجعلت منه أحد أهم المؤثرين في موريتانيا وغرب إفريقيا، هذا بالإضافة إلى انتشار محتواه في دول أوروبية، فما هي أدواته؟

 

أولا: اللغة

لقد حرص على أن يكون Verbal Communication أو الاتصال الكلامي مميزا ولافتا وحتى مستفزا، بهدف جذب اهتمام وتفاعل المتابعين، بالإضافة إلى خلق بصمة أو توقيع خاص به يرتبط بأذهانهم ويكررونه للإشارة إليه، فمثلا Agialité…Mortement.. Mariation… Elegation.. Aimation، كلها كلمات من تأليفه، لقد أنشأ لغة خاصة تعمد فيها الإخلال بالقواعد والتركيب والمعلوم من اللغة بالضرورة، وقد نجح فعلا في جعل الكثيرين سواء في موريتانيا أو خارجها، يستخدمون مصطلحاته الهجينة والتي لا نستبعد مع تقدم الزمن أن يدافعوا عنها من باب خطأ شائع أفضل من صواب مهجور، هذه الأداة أي اللغة، حققت جزء مهما من العملية الاتصالية وأسهمت في تهيئة مستخدمي التطبيق للبحث عن المزيد.

 

ثانيا: البيئة أو المكان

الغرفة التي يصور فيها مقاطعه ضيقة ويُلاحظ أن الخلفية المستخدمة فيها هي ورق بلاستيكي يستخدم عادة في العُرُش، هذه الصورة المتواضعة عززت في أذهان المتابعين انطباعا من العصامية والزهد والتصالح مع الذات عادة ما يثير إعجاب وتعاطف مستخدمي الإنترنت، وحفاظا على هذه الصورة وهذا الانطباع، ظهر في مقطع وهو يرد على تعليق يقول صاحبه بأن المعني ظهر أمام منزل فاخر بالقول إنه جاء لذلك المكان تلبية لدعوة من صديق ولا يملك ذلك المنزل ولا علاقة له به، لأنه يدرك بأن البيئة التي تمت فيها عملية الاتصال (التصوير) من الأسباب الرئيسية لنجاحه ونجاح كثيرين من قبله، لأن اختيارها يتم عادة حسب معايير معينة أهمها الغرابة وأن تثير فضول المتابعين، فيسألون عنها وبعضهم يطلب من صانع المحتوى أن يقوم بتوسيع زاوية التصوير ولسان حاله يقول إن " وراء الأكمة ما وراءها".

 

ثالثا: لغة الجسد والاتصال الصامت

تعتبر لغة الجسد والاتصال الصامت Nonverbal Communication إحدى أدوات العملية الاتصالية القوية والمؤثرة، وقد لاحظتُ أن متابعي كودا يترقبون ردة فعله من لغة جسده قبل كلامه أحيانا، لأنه استطاع أن يوصل ردودا معبرة دون نطق كلمة، فالنظرات والحركة وتعبيرات الوجه تُغني لمن استخدمها بحنكة عن الكثير من الكلام فمثلا عندما طلبت إحدى الفتيات منه مهرا مبالغا فيه من خلال لائحة طلبات قرأتها على مسامعه، اكتفى بهز رأسه فقط الأمر الذي أوضح لمشاهدي البث أن كودا ليس مستعدا للموافقة على هذا العرض، بالإضافة إلى طريقة جلوسه واستخدامه لتعبيرات الوجه في ردوده على التعليقات.

 

رابعا: الاختلاف

يحرص رواد ونشطاء و"مشاهير" مواقع التواصل الاجتماعي عادة على ادعاء المثالية في حياتهم الشخصية والعملية بهدف إبهار واستفزاز المتابعين، وقد تكون حياتهم مثالية فعلا فيتعمدون الاستعراض أو غير ذلك فيتعمدون التزييف، لكن كودا اختار أن يكون مختلفا، فعمل على إظهار جانب معين من حياته لا يحب مستخدمو الإنترنت عرضه أمام المتابعين لقد أدخلهم في كوخه أو عريشه أو غرفته الصغيرة، وجعلت ينتبهون إلى أنه لا يوجد الكثير من أدوات الرفاهية في هذا المكان، وصنع لهم الشاي واستضاف أصدقاء فيها فأظهر بقصد أو من دون قصد أنها غرفة ضيقة بالكاد يستطيع الاستلقاء فيها، نمط الحياة هذا وجده الكثير من المتابعين مختلفا واعتبروا أن صاحبه يستق المتابعة فهو في نظرهم شخص كادح وحقيقي.

 

خامسا: المحتوى

اختار كودا أن يكون المحتوى كوميديا، لكنه أراده أن يكون خيارا عفويا قائما على التنمر والتنمر المضاد، فهو لا مشكلة لديه  في التنمر على سحنته مثلا بل إنه يصدرها لهم عمدا لكي يبادروا بالتنمر عليه، مثل ما حدث مع فمه عندما طالبه أحد المتابعين بإجراء تحديث له وكن جوابه بأن فمه ليس آيفون وعلى هذا المنوال ابتكر نوعا خاصا من الكوميديا، مزجه لاحقا بقصص حب وعروض زواج من فتيات اختار عمدا أن يكن جميلات ومرتاحات ماديا ويقمن في الخارج، حتى يحفز الجمهور على إجراء مقارنة كوميدية هو في الأصل يهدف إليها، تمهيدا لإثراء المحتوى وتعزيز التفاعل معه. هذا المحتوى الكوميدي الفريد والخاص لعب دورا رئيسيا في صعود نجم هذا الناشط، وساعده في الخروج من غرفته الضيقة إلى إحياء حفلات على طريقة Standup comedy.

 

إن تخطي عتبة المليون متابع في بلد من بين الأبطأ والأكثر تكلفة والأقل اتصالا بالإنترنت ومن مكان متواضع وتجهيزات بسيطة يعتبر إنجازا حقيقيا ولا يمكن أن يكون عشوائيا، بل إن صاحب هذا الإنجاز يعي جيدا ما يقوم به وعلى دراية بخصائص جمهوره وطبيعة أدواته ومحتوى رسائله، كما أنه يعمل بشكل منظم ودقيق من أجل الإبقاء على وتيرة التفاعل معه مرتفعة، فهو لم يظهر ليختفي مثل الفقاعة.

 

إن الكودالوجيا هي عملية اتصالية خاصة تستخدم أدوات غير تقليدية من أجل صناعة تأثير سريع ومستمر بشكل تصاعدي، وهي تفكير خارج الصندوق لا يراعي القالب التقليدي لعمليات الاتصال بقدر ما يركز على الاستخدام الأمثل والفعال للأدوات المتاح.