على مدار الساعة

أزمة مالي والجزائر: عنوان وضع جديد بالساحل لم تستقر بعد قواعده 

23 ديسمبر, 2023 - 19:16
أحمد محمد المصطفى - ahmedou0086@gmail.com

بات واضحا خلال الأيام الأخيرة أن العلاقات المالية الجزائرية تعرف تطورات غير مسبوقة، وذلك عقب استدعاء وزير الخارجية المالي عبد الله جوب الأربعاء سفير الجزائر في باماكو الحواس رياش، وإبلاغه احتجاجا شديد اللهجة من مالي على ما وصفها بـ"أعمال غير ودية"، ارتكبتها السلطات الجزائرية في الفترة الأخيرة تحت غطاء عملية السلام في مالي.

 

من الجلي جدا، أن ما أزعج سلطات مالي هو حجم الحفاوة التي استقبل بها الإمام والزعيم السياسي محمود ديكو في الجزائر، وخصوصا استقباله من طرف الرئيس الجزائري، وتصريحه عقب اللقاء، والذي أثنى فيه على دور الجزائر في أزمات مالي المتتالية خلال العقود الماضية، مؤكدا أنها "وقفت معنا في كل المراحل والأزمات"، داعيا الله عز وجل أن "يزيل المشاكل التي تعاني منها مالي ومنطقة الساحل". (قد يكون من هذه الأزمات بالنسبة للإمام وداعميه أزمة الانقلاب التي أوصلت حكام مالي الجدد إلى السلطة بعد ثورة شعبية كان هو شخصيا في مقدمتها، وأسقطت الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا رحمه الله تعالى).

 

قلت من الجلي أن زيارة ديكو هي السبب أو الشرارة، لأن استقبال الجزائر لقادة الحركات الأزوادية ليس جديدا، ويفترض أن لا يكون مستغربا، فهي الراعي الرسمي لاتفاق السلام الموقع بين الحكومة المالية وهذه الحركات، والذي وقعته بعد ضغوط هائلة إقليمية وأممية، علما أن الاتفاق مات قبل أن يجف حبر توقيعه.

 

وهذا بالضبط هو ما دندنت حوله وزارة الخارجية الجزائرية في البيان الصادر عنها عقب استدعاء وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف الخميس، سفير مالي بالجزائر، ماهامان أمادو مايغا، حيث ركزت على استقبالها لقادة الحركات الأزوادية دون أي إشارة إلى استقبال الزعيم ديكو.

 

وقالت الوزارة في بيانها إنها أكدت لسفير مالي أن الاجتماعات الأخيرة التي تمت مع قادة الحركات الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر "تتوافق تماما مع نص وروح" البيان الذي أصدرته الوزارة يوم 13 ديسمبر الجاري، ودعت من خلاله جميع الأطراف المالية إلى تجديد التزامها بتنفيذ اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر، استجابة للتطلعات المشروعة لجميع مكونات الشعب المالي الشقيق في ترسيخ السلم والاستقرار بصفة دائمة ومستدامة.

 

ووفق البيان، فقد حدد عطاف لمايغا ما وصفها بالمبادئ الثلاثة الأساسية التي تبني عليها الجزائر مساهماتها التاريخية في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في جمهورية مالي، وشدد على أن بلاده "لم تحد ولن تحيد عنها"، وهي التمسك بوحدة مالي وسلامة أراضيها، والقناعة بالسبل السلمية لضمان السلم والأمن والاستقرار، واعتماد المصالحة الوطنية، بدل الانقسامات والشقاقات المتكررة بين الإخوة والأشقاء.

 

وقد أخذت الخلاف بين الجانبين منحى تصاعديا، إذ استدعت الخارجية المالي أمس سفيرها في الجزائر، فيما تم الحديث إعلاميا عن قرار مماثل من الجزائر، دون أن يصدر شيء رسمي في الموضوع، حتى وقت كتابة هذا الموضوع.

 

والحقيقة، أن الجزائر ظلت خلال العقود الأخيرة هي الوسيط الأول – بل والأوحد – في الأزمات المتجددة في مالي، والجزء المكمل لهذه الحقيقة أن الدبلوماسية الجزائرية افتقدت الفاعلية في استثمار أجواء المصالحة في دفع الأطراف لمغادرة مربعات أو خنادق مواقفهم السابقة، والدخول في مسار جديد ينتج واقعا ينسي سكان البلد الواحد الواقع الذي ألجأهم للاحتكام لفوهات البنادق، وبالتالي شكلت النسخ المختلفة من هذه المصالحات مرحلة كمون كانت أي شرارة كفيلة بإعادة اللهيب والنار في المنطقة إلى سابق عهدها.

 

الحديث عن مالي يتطلب الحديث عن وضعها السياسي، وعن استراتيجية حكامها في فرض حكمهم كأمر واقع، وخصوصا بعد إعلانهم تأجيل الانتخابات التي وعدوا بتنظيمها من أجل العودة إلى الوضع الدستوري إلى أجل غير مسمى، مستفيدين من تآكل الطبقة السياسية، وتأثر مصداقيتها، ومن التفاف شعبي، يسعون لإبقائها جذوته متقدمة من خلال استثارة الشعور الوطني عبر شغله بالمعارك الخارجية.

 

وقد كانت فرنسا عنوان هذه المعركة خلال السنتين الأخيرتين، لكن حدية الموقف منها بدأت تتراجع بعد أن تراجع تأثيرها المباشر، وخسارتها في بوركينا والنيجر، وبالتالي ربما تكون الجزائر البديل المناسب لضمان استمرار عنوان معركة مع "أجنبي"، وفي سبيل ذلك الضغط على الجزائر لثنيها عن تقديم الدعم للصوت السياسي الوحيد المتبقي في مالي خارج دائرة العسكر الحاكمين، وهو صوت الشيخ محمود ديكو.

 

عند توسيع الصورة، يمكن الحديث عن تطلع حكام مالي الجدد، لاعتماد أساليب وقواعد جديدة في التعاطي مع أزمة الشمال المستحكمة منذ استقلال البلاد عن فرنسا قبل ستة عقود، وهي الأزمة التي لا تهدأ إلا لتنفجر من جديد، هذه الأساليب بعضها سبق وأن استخدم في تجارب ماضية، وبعضها جديد.

 

أما المكرر، فهو العمل على تمزيق الحركات الأزوادية المناوئة لها، وهي حركات ممزقة أصلا، ومنقسمة بشكل مربك، ويتم ذلك عبر رعاية انشقاقات بأساليب مختلفة أغلبها ناعم، فضلا عن استثمار التباينات العرقية والقبلية لإثارة الاقتتال الذي لم يتوقف كليا في الإقليم خلال العقود الأخيرة إلا لفترات محدودة.

 

أما المستجد فهو الاستعانة بالغطاء الجوي والدعم الميداني الذي وفره الحليف الروسي الجديد من خلال شركة "فاغنر"، وبالتزامن مع ذلك الضغط على دول الجوار لوقف ما تعتبره مالي دعما لهذه الحركات أو الحد منه.

 

كما استفادت مالي من سلاح نوعي آخر، كان له الدور الأبرز في ترجيح الكفة لصالحها في مواجهة الحركات المصلحة، وهو الطائرات المسيرة، وخصوصا من النوعية التركية "بيرقدار"، حيث أعلن الجيش المالي منذ فبراير الماضي تسلم هذا النوع من الطائرات، ولوحظ دخولها على الخط في المواجهات الميدانية التي اندلعت منذ أغسطس الماضي.

 

التطورات في مالي، جزء من تطورات أكبر في المنطقة، عنوانها انقسام "حدي" بين أنظمتها، أدى لتفكك مجموعة الدول الخمس بالساحل، وهو الإطار الذي كان يجمع الدول الأكثر تأثرا أو ارتباطا بالتحديات الأمنية والتنمية في عمق الساحل، وظهور تحالف بديل عنها ضم حتى الآن أنظمة الدول التي عرفت انقلابات عسكرية، وغردت في السرب الطامح للخروج من الوصاية الفرنسية، أي أنظمة مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

 

هذا الانقسام الإقليمي ليس سوى انعكاس وتمظهر لتنافس القوى الدولية في المنطقة، أي الصراع الغربي الروسي بشكل عام، والروسي الأمريكي بشكل خاص، مع حضور متفاوت لقوى دولية أخرى صاعدة وطامحة لأخذ مساحتها من النفوذ في السوح المفتوحة، كالصين، وتركيا، وإيران، والهند.

 

وقد عززت موجة الانقلابات في المنطقة هذا الانقسام الإقليمي، وأججه الصراع الدولي المحتدم، وهو ما جعل المنطقة كله تدخل مرحلة انتقال وتحول من وضع كان قائما إلى وضع جديد بدأت ملامحه ومعالمه تتكشف، لكنها لم تصل بعد مرحلة تجعل قراءتها وتحديدها – بدقة - ممكنا..