على مدار الساعة

ماهي دوافع هجرة الموريتانيين إلى الدول الغربية والتأثيرات المحتملة على آفاق التنمية الاقتصادية؟ (2/3)

5 ديسمبر, 2023 - 20:11
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

قبل أن نستأنف ‏هذا النقاش، ‏أود ‏أن أنبه‏ ‏إلى ‏أن ‏مشكلة الهجرة هي مشكلة تعاني منها جميع الدول النامية ‏وليست مشكلة موريتانية فحسب. فمن غير المنصف ‏أن ‏نلقي بجميع ‏اللوم ‏على الحكومة (أو الحكومات) والشعب الموريتانيين ‏وأن نتناسى الأسباب الرئيسية بما ‏لها من جذور عميقة مرتبطة بظاهرة العولمة ‏والتنافس الدولي من أجل استقطاب الخبرات العلمية واليد العاملة. ‏

 

ثانيا، ‏أود أيضا أن أختصر هذا النقاش على الجالية الموريتانية، خصوصا الذين يعيشون في الولايات المتحدة. ‏وبينما قد تكون هناك عوامل مشتركة بين دوافع الهجرة تجمع الموريتانيين وغيرهم إلا أنه ‏ستكون هناك حتما خلافات فيما يتعلق بالعوامل الاجتماعية والسياسية بين البلدان المختلفة. ‏
فدوافع الهجرة الرئيسية فيما يخص ‏الموريتانيين هي تحسين الأوضاع المادية ‏باستثناء قلة ‏لا تزيد على خمسة في المائة حسب تقديري. ‏ ‏هذه ‏الأقلية ‏ ‏تضم ‏بعض الطلبة ‏الحاصلين على منح ‏دراسية أو آخرين ‏ممن تمتلك عائلاتهم إمكانات ‏تسمح ‏بصرف رسوم الجامعات الأمريكية الباهظة. ‏ ‏ففيما يخص عناصر ‏المجموعة الأولى ‏الذين قدموا بغية تحسين ‏أوضاعهم المادية، ‏ ‏فجدير بالذكر ‏أنهم يشملون ‏مجموعات ‏تتراوح مستوياتهم المادية من متواضعة إلى عالية.

 

‏ورغم أن الدافع الرئيسي هو تحسين الأحوال المادية فقد لا يعني ذلك بالضرورة أن هذه المجموعة ‏تتكون فقط من ذوي الحاجات الماسة فغالبا ما يكون العكس هو الصحيح. ‏حتى في حالات ‏ذوي الإمكانات ‏المتواضعة، فمن الواضح ‏أنه بإمكانهم الحصول على مبالغ مالية معتبرة ليست في متناول معظم المواطنين الموريتانيين. ‏فقد بلغني- على سبيل المثال- أن ‏تكاليف ‏الرحلة في اتجاه الولايات المتحدة ‏عبر دول أمريكا الجنوبية والمكسيك تكلف عدة ملايين من الأوقية (القديمة) ‏أو ما يزيد على مبلغ 10,000 دولار. هذه المبالغ الطائلة دليل واضح على مدى تصميم هؤلاء ‏ الأفراد ‏على مغادرة البلد والبحث عن سبل العيش في ‏دول أخرى ‏بقدر ما ‏يعكس ‏مستوى اليأس ‏ ‏والتشاؤم من الأوضاع الاقتصادية الحالية ‏للبلد وآفاقها المستقبلية. هذه النظرة أو التفسير ربما لا يفاجئ الكثيربن مما يملي ضرورة العمل على خلق مستقبل أفضل قبل أن يزداد الطين بلة. فاستمرار الهجرة بهذه الوتيرة ‏يهدد ‏بنتائج مستقبلية قد تكون لها عواقب سيئة على اقتصاد ‏البلد نتيجة استنزاف طاقته البشرية.

 

يلاحظ أن جميع المهاجرين هم شباب في مقتبل العمر وربيع العطاء ‏مما يجعلهم يمثلون ثروة بشرية لا تقدر ‏بأي ثمن.‏ ‏ثروة ‏سيحرم ‏البلد من استثمارها والاستفادة ‏من ‏جهودها‏ ‏التي لا يمكن استيرادها في ‏أكياس معلبة أو حاويات ‏يتم ‏شراؤها ‏بأسعار رخيصة وتشحن من الصين أو الهند.

 

 ‏الطاقة البشرية سواء منها المحترفة أو غير المحترفة هي السلعة ‏الأغلى ‏في العالم ‏ والتي تنافس الدول المصنعة على جذبها ‏لأنها ركيزة أساسية ‏يعتمد عليها نموهم الاقتصادي. ‏المظهر الآخر لاستنزاف الطاقة البشرية هو استقطاب ‏ذوي المؤهلات العالية ‏من مهنيين وخبراء ‏اللذين ‏يتطلب تكوينهم ‏عقودا من التدريب ‏تكلف مبالغ باهظة تصرف على الجامعات ومراكز التخصص والبحوث. ‏أهمية هذه الفئة من المهاجرين جلية ‏وخير دليل على ذلك هو المغريات التي تقدمها الدول الصناعية ‏لهم ‏من تأشيرات إقامات دائمة وحق المواطنة ورواتب مغرية، ‏بغض النظر عن توفير أماكن عمل مدعومة ‏بميزانيات ضخمة تضمن لهم توفير أنواع التكنولوجيا الحديثة ومسايرة التطور العلمي أو حتى قيادته. ‏وقد يظن البعض أن ‏مجموعة الخبراء أكثر أهمية ‏من المجموعة غير المحترفة لكن حقيقة ‏الأمر ‏أن كلتا الفئتين ‏ضرورية لضمان نمو اقتصادي متوازن.  

 

‏وربما يشكك البعض ‏في قدرة ‏دولة مثل بلدنا ‏على التنافس ‏مع ‏دول ‏الغرب في ‏جذب مواطنينا ‏المقيمين هناك والذين يتقاضون رواتب ‏ووظائف ‏مغرية، ‏لكن هذه النظرة سطحية ولا تأخذ ‏بعين الاعتبار جميع أبعاد القضية، فرغم ‏أن ‏ ‏الدافع ‏المبدئي للهجرة قد يكون اقتصاديا/ ماديا، ‏إلا أنه سرعان ‏ما يتضح للمهاجر الجديد أن الحياة في بلدانهم المضيفة ليست كلها حياة ‏مرح وترف و "اتحلقيم واتجوريف" ‏كما يتوقع البعض أو تصور الأفلام السينمائية والروايات الوردية التي يسوقها بعض المغتربين أنفسهم. ‏زيادة على ذلك، الأولويات الشخصية تتغير حسب ‏تجربة المرء وعمره ووضعيته الراهنة ودوافعه وطموحاته المستقبلية.

 

 ‏فالمهاجر، ‏على سبيل المثال، ‏قد يرضى ‏بمزاولة أعمال شاقة ‏مقابل مبالغ متواضعة في البداية لكنه سيدرك لاحقا ‏أن هذه المبالغ لا توفر له العيش ‏بصفة مرضية ‏في بلده المضيف وأن العودة إلى بلده الأم ‏هو خيار جدير بالاعتبار. 

 

‏وحتى في بعض الحالات ‏الأقل شيوعا ‏حيث يكون ‏المهاجر ‏حائزا على مؤهلات عالية تخوله الحصول على ‏وظيفة مريحة نسبيا ‏مقابل ‏راتب ‏أكثر مما يتقاضاه ممارسو‏ ‏الأعمال اليدوية، ‏يظل هؤلاء المهاجرون ‏يحسون بدرجات من الغربة وعدم الانسجام التام مع مجتمعهم المضيف نتيجة لبعض الفوارق الحضارية أو الدينية -ناهيك عن بعض التجارب العنصرية- ‏مما يحد من شعورهم بالراحة النفسية ‏وقيمتهم ‏الاعتبارية كأفراد من مجتمعهم المضيف. 

 

‏ ‏فمهما كان ‏مبلغ التعويضات المالية التي يتقاضاها ومهما كان مستوى ‏مؤهلاته المهنية أو خبرته العلمية، ‏يظل المهاجر الموريتاني ‏في الدول الغربية يشعر بالغربة كالسمكة التي نقلت من البحر إلى البر، ورغم أن بعض المهاجرين ربما لا يشعرون بالانسجام التام مع عادات وممارسات مجتمعهم المضيف، ‏إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم يشعرون ‏بإحباط عميق وإنما يعني فقط أنه لا يمكنك أن تطفئ ‏ظمأ العطشان برغيف من الخبز أو أية وجبة أخرى مهما كانت ‏لذيذة.  ‏ ‏