قبل أن نستأنف هذا النقاش، أود أن أنبه إلى أن مشكلة الهجرة هي مشكلة تعاني منها جميع الدول النامية وليست مشكلة موريتانية فحسب. فمن غير المنصف أن نلقي بجميع اللوم على الحكومة (أو الحكومات) والشعب الموريتانيين وأن نتناسى الأسباب الرئيسية بما لها من جذور عميقة مرتبطة بظاهرة العولمة والتنافس الدولي من أجل استقطاب الخبرات العلمية واليد العاملة.
ثانيا، أود أيضا أن أختصر هذا النقاش على الجالية الموريتانية، خصوصا الذين يعيشون في الولايات المتحدة. وبينما قد تكون هناك عوامل مشتركة بين دوافع الهجرة تجمع الموريتانيين وغيرهم إلا أنه ستكون هناك حتما خلافات فيما يتعلق بالعوامل الاجتماعية والسياسية بين البلدان المختلفة.
فدوافع الهجرة الرئيسية فيما يخص الموريتانيين هي تحسين الأوضاع المادية باستثناء قلة لا تزيد على خمسة في المائة حسب تقديري. هذه الأقلية تضم بعض الطلبة الحاصلين على منح دراسية أو آخرين ممن تمتلك عائلاتهم إمكانات تسمح بصرف رسوم الجامعات الأمريكية الباهظة. ففيما يخص عناصر المجموعة الأولى الذين قدموا بغية تحسين أوضاعهم المادية، فجدير بالذكر أنهم يشملون مجموعات تتراوح مستوياتهم المادية من متواضعة إلى عالية.
ورغم أن الدافع الرئيسي هو تحسين الأحوال المادية فقد لا يعني ذلك بالضرورة أن هذه المجموعة تتكون فقط من ذوي الحاجات الماسة فغالبا ما يكون العكس هو الصحيح. حتى في حالات ذوي الإمكانات المتواضعة، فمن الواضح أنه بإمكانهم الحصول على مبالغ مالية معتبرة ليست في متناول معظم المواطنين الموريتانيين. فقد بلغني- على سبيل المثال- أن تكاليف الرحلة في اتجاه الولايات المتحدة عبر دول أمريكا الجنوبية والمكسيك تكلف عدة ملايين من الأوقية (القديمة) أو ما يزيد على مبلغ 10,000 دولار. هذه المبالغ الطائلة دليل واضح على مدى تصميم هؤلاء الأفراد على مغادرة البلد والبحث عن سبل العيش في دول أخرى بقدر ما يعكس مستوى اليأس والتشاؤم من الأوضاع الاقتصادية الحالية للبلد وآفاقها المستقبلية. هذه النظرة أو التفسير ربما لا يفاجئ الكثيربن مما يملي ضرورة العمل على خلق مستقبل أفضل قبل أن يزداد الطين بلة. فاستمرار الهجرة بهذه الوتيرة يهدد بنتائج مستقبلية قد تكون لها عواقب سيئة على اقتصاد البلد نتيجة استنزاف طاقته البشرية.
يلاحظ أن جميع المهاجرين هم شباب في مقتبل العمر وربيع العطاء مما يجعلهم يمثلون ثروة بشرية لا تقدر بأي ثمن. ثروة سيحرم البلد من استثمارها والاستفادة من جهودها التي لا يمكن استيرادها في أكياس معلبة أو حاويات يتم شراؤها بأسعار رخيصة وتشحن من الصين أو الهند.
الطاقة البشرية سواء منها المحترفة أو غير المحترفة هي السلعة الأغلى في العالم والتي تنافس الدول المصنعة على جذبها لأنها ركيزة أساسية يعتمد عليها نموهم الاقتصادي. المظهر الآخر لاستنزاف الطاقة البشرية هو استقطاب ذوي المؤهلات العالية من مهنيين وخبراء اللذين يتطلب تكوينهم عقودا من التدريب تكلف مبالغ باهظة تصرف على الجامعات ومراكز التخصص والبحوث. أهمية هذه الفئة من المهاجرين جلية وخير دليل على ذلك هو المغريات التي تقدمها الدول الصناعية لهم من تأشيرات إقامات دائمة وحق المواطنة ورواتب مغرية، بغض النظر عن توفير أماكن عمل مدعومة بميزانيات ضخمة تضمن لهم توفير أنواع التكنولوجيا الحديثة ومسايرة التطور العلمي أو حتى قيادته. وقد يظن البعض أن مجموعة الخبراء أكثر أهمية من المجموعة غير المحترفة لكن حقيقة الأمر أن كلتا الفئتين ضرورية لضمان نمو اقتصادي متوازن.
وربما يشكك البعض في قدرة دولة مثل بلدنا على التنافس مع دول الغرب في جذب مواطنينا المقيمين هناك والذين يتقاضون رواتب ووظائف مغرية، لكن هذه النظرة سطحية ولا تأخذ بعين الاعتبار جميع أبعاد القضية، فرغم أن الدافع المبدئي للهجرة قد يكون اقتصاديا/ ماديا، إلا أنه سرعان ما يتضح للمهاجر الجديد أن الحياة في بلدانهم المضيفة ليست كلها حياة مرح وترف و "اتحلقيم واتجوريف" كما يتوقع البعض أو تصور الأفلام السينمائية والروايات الوردية التي يسوقها بعض المغتربين أنفسهم. زيادة على ذلك، الأولويات الشخصية تتغير حسب تجربة المرء وعمره ووضعيته الراهنة ودوافعه وطموحاته المستقبلية.
فالمهاجر، على سبيل المثال، قد يرضى بمزاولة أعمال شاقة مقابل مبالغ متواضعة في البداية لكنه سيدرك لاحقا أن هذه المبالغ لا توفر له العيش بصفة مرضية في بلده المضيف وأن العودة إلى بلده الأم هو خيار جدير بالاعتبار.
وحتى في بعض الحالات الأقل شيوعا حيث يكون المهاجر حائزا على مؤهلات عالية تخوله الحصول على وظيفة مريحة نسبيا مقابل راتب أكثر مما يتقاضاه ممارسو الأعمال اليدوية، يظل هؤلاء المهاجرون يحسون بدرجات من الغربة وعدم الانسجام التام مع مجتمعهم المضيف نتيجة لبعض الفوارق الحضارية أو الدينية -ناهيك عن بعض التجارب العنصرية- مما يحد من شعورهم بالراحة النفسية وقيمتهم الاعتبارية كأفراد من مجتمعهم المضيف.
فمهما كان مبلغ التعويضات المالية التي يتقاضاها ومهما كان مستوى مؤهلاته المهنية أو خبرته العلمية، يظل المهاجر الموريتاني في الدول الغربية يشعر بالغربة كالسمكة التي نقلت من البحر إلى البر، ورغم أن بعض المهاجرين ربما لا يشعرون بالانسجام التام مع عادات وممارسات مجتمعهم المضيف، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنهم يشعرون بإحباط عميق وإنما يعني فقط أنه لا يمكنك أن تطفئ ظمأ العطشان برغيف من الخبز أو أية وجبة أخرى مهما كانت لذيذة.