على مدار الساعة

‏ماهي دوافع هجرة الموريتانيين إلى الدول الغربية والتأثيرات المحتملة على آفاق التنمية الاقتصادية؟ (1/3)

4 ديسمبر, 2023 - 16:33
الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

هجرة المواطنين الموريتانيين ‏إلى الدول الأجنبية هي تقاليد قديمة ‏يعود تاريخها إلى فترة ‏ما قبل ‏الاستقلال‏ ‏رغم اختلاف الوجهات ‏عبر الزمن. فبينما ‏كانت دول غرب إفريقيا هي الوجهة الرئيسية خلال معظم القرن التاسع عشر‏ ‏بدأنا ‏نشهد ‏ازديادا ملحوظا ‏في ‏أعداد ‏المتوجهين ‏إلى الدول الغربية في العقود الأخيرة ‏مما نتج ‏عنه وجود‏ ‏أعداد من الموريتانيين لا يستهان بها في مختلف هذه الدول، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا. 

 

‏وبينما تختلف دوافع الهجرة ‏من شخص إلى آخر إلا أن القاسم المشترك بين الجميع يظل هو ‏البحث عن مكاسب لا تتوفر في الوطن الأم ‏ورغم ذلك يظل الجميع يحن إلى العودة يوما ما. 

 

‏فلقد شاهدت حسب تجربتي الشخصية خلال عقود من الإقامة في الخارج أنه يصعب على الموريتانيين بشكل خاص التنصل ‏والانسلاخ ‏التام من الروابط الأسرية وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية. ‏فلهذه الأسباب وغيرها من العوامل ‏العاطفية والنفسية والوطنية ‏يظل الموريتانيون ‏يحلمون بالعودة إلى الوطن لينعموا بالعيش بين ذويهم ‏وليساهموا ‏في مجهودات ‏بناء الوطن وتحسين ‏الظروف المعيشية للأجيال القادمة. 

 

‏ومع ذلك ‏فإنه من المؤسف أن قرار العودة إلى الوطن يبقى صعبا للغاية إن لم يكن مستحيلا‏ في نظر الغالبية العظمى من ‏هؤلاء المهاجرين، ‏والسؤال المطروح هو لماذا؟ ‏ما هي العوامل التي تقف عثرة في سبيل ‏عودة ‏المهاجرين الموريتانيين‏ ‏بصفة عامة والمقيمين في الدول الغربية بصفة خاصة إلى وطنهم الأم؟ ‏ ‏ما هي ‏الصعوبات التي يواجهها‏ ‏الموريتانيون ‏أثناء إقامتهم في ‏الدول الأجنبية؟ ‏ما هي ‏الانعكاسات السلبية ‏ ‏لفقدان ‏هذه الفئة من المجتمع بما تمتلكه ‏من ‏أموال ‏ومهارات حرفية ومؤهلات وخبرات علمية ‏على ‏النسيج المجتمعي وآفاق التنمية الاستراتيجية للدولة الموريتانية؟.

 

‏ هذه مجموعة من ‏الأسئلة ‏التي تم إهمال ‏مناقشتها لفترة طويلة ‏لكنه يتعين ‏‏الآن أكثر من أي وقت مضى على الشعب والحكومة الموريتانيين ‏أخذها بأهمية ‏تتناسب مع مستوى ‏النتائج الاجتماعية ‏السلبية والخسائر الاقتصادية التنموية ‏المحتملة. ‏

 

لماذا الآن، قد يتساءل البعض؟ ‏ ‏الجواب المختصر هو أن ‏موجة الهجرة الأخير ‏إلى الولايات المتحدة عبر طرق أقل ما يقال عنها إنها ملتوية ‏ومحفوفة بالمخاطر‏ ‏جعلتني ‏أعيد ‏التفكير في الموضوع من جديد. ‏موجة تميزت باستخدام ‏أساليب جديدة تتجاوز بذكاء باهر نظام التأشيرات المتعارف عليها كما تشمل أعدادا كبيرة من المسافرين. ‏أساليب تعتمد على التوجه نحن بعض أمريكا اللاتينية ‏كمحطة أولى تمهد للوصول إلى حدود الولايات المتحدة الجنوبية مع المكسيك ‏وتسلق ‏الحائط الذي يفصل بين الدولتين ليجد المهاجرون أنفسهم داخل الأراضي الأمريكية. 

 

أما أعداد الموريتانيين الذين يسلكون هذا الطريق فهي الأكثر ‏إثارة للدهشة حيث قد حصل الكاتب على وثيقة رسمية‏ ‏توضح أن أكثر‏ ‏من 1600 مواطن موريتاني ‏عبروا الحدود بهذه الطريقة خلال شهر أبريل من ‏سنة 2023 ‏ ‏وحده. ‏وبالمقارنة كان عدد مجموع ‏الذين عبروا هذه الحدود من السنغال ومالي وغامبيا وغانا وساحل العاج ونيجيريا والسودان وتشاد ‏وبوركينا فاسو ‏لا يزيد على ‏1308 أشخاص. 

 

‏هذه أعداد عابري الحدودية الجنوبية في شهر واحد وقد ‏تتغير في باقي أشهر السنة الأخرى ‏لكنها ‏توضح فرقا شاسعا ‏في أعداد الموريتانيين ‏مقارنة بباقي دول المنطقة، حتى لو تجاهلنا فارق العدد الإجمالي للسكان بين بلدنا وهذه الدول. 

 
 ‏لكن في الحقيقة هذه ليست أول مرة ‏راودتني فكرة تقييم ‏دوافع الهجرة والأسباب التي تجعل المرء ‏يتغرب ‏عن وطنه. ‏فلقد ‏ ‏خطرت نفس الفكرة على بالي ‏قبل بضعة سنين ‏بعدما تناقلت شبكات الأخبار العالمية ‏أنباء الكوارث التي ‏أودت ‏بحياة ‏أعداد كبيرة من اللاجئين الذين ‏ابتلعتهم موجات البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولتهم الوصول إلى الشواطئ ‏الأوروبية. ‏‏ 

 

‏وجدت نفسي آنذاك أتساءل عن ‏الدوافع التي تجعل البعض يتجشم ‏عناء ‏هذه الرحلات الخطيرة ‏وما تكلفة من أموال طائلة ‏مغامرا بحياته ومراهنا ‏على مستقبل قد ينتظره على الجانب الآخر. ‏وجدت نفسي أتساءل هل الوصول إلى "الأرض الموعودة" ‏فعلا يستحق ‏هذه التضحيات الثمينة؟ ‏السؤال الثاني ‏وربما ‏لأكثر أهمية هو لماذا لا يعود ‏هؤلاء المهاجرون إلى أوطانهم بعد تحقيق بعض أهدافهم ما يتعلق منها بتوفير مبالغ مالية أو نيل مؤهلات عالية؟.

 

‏ ‏دعنا ننطلق من الفرضية القائمة على أن المكسب المالي هو ‏الدافع الأول للهجرة، الأمر الذي يثير سؤالا جديا وهو ما ‏الذي يميز المحيط الاجتماعي أو ‏الوضع الاقتصادي في بلدنا ليدفع اعدادا غير مسبوقة لبذل الغالي والنفيس وتعريض أنفسهم لمخاطر‏ ‏السفر ‏عبر دول تشتهر ‏بكثرة عصابات تهريب ‏المخدرات والجرائم المنظمة الأخرى؟ ‏والجواب في اعتقادي ‏يدور حول ثلاثة محاور:

1.    ‏مستوى الدخل كمقياس لقيمة ‏ومكانته الفرد ‏والعائلة في المجتمع الموريتاني، أو بعض فئاته على الأقل.
2.    ‏تلاشي‏ الأمل في الحصول على مصادر دخل ‏في الحاضر أو المستقبل القريب توفر ‏مستويات حياة تعتبر مرضية. 
3.    ‏ إغراء مستويات الدخل التي يتوقع ‏تحصيلها بعد الوصول ‏إلى الدول الوجهة.

 

مستوى الدخل كمقياس لقيمة ‏ومكانته الفرد

‏تحسين مستوى المعيشة ظل ‏محل رغبة ـ ‏وفي بعض الأحيان هدف ـ الكثير ‏من البشر عبر التاريخ. "‏فهي (الدراهم) الفصاحة لمن أراد كلاما ‏وهي السلاح لمن أراد قتالا" ‏كما قال الإمام الشافعي (رحمة الله عليه). 

 

‏فالرغبة ‏ ‏في كنز الذهب والفضة ‏ليست أمرا جديدا لكن ‏انتشارها في المجتمع الموريتاني ‏وصل مستويات ‏وبائية ‏تزامنا مع ‏ ‏الازدياد الفائق في عدد سكان المدن وبروز أدوات التواصل الاجتماعي ‏والهواتف المحمولة/الذكية. 

 

‏وبينما لا تعتبر الرغبة في تحسين مستوى الدخل أمرا سيئا بحد ذاتها، ‏لكن المؤسف في الأمر أنه‏ قد يصاحبها اضمحلال في تثمين وتقدير الخصال الحميدة ‏التقليدية (‏مثل الأمانة والشهامة والمروءة والصدق) كمؤشر للمكانة الاجتماعية. 

 

‏وبطبيعة الحال، كأن لازدياد حدة ‏المشاكل الاقتصادية ‏وتفشي الفساد الإداري دور مساعد ‏زاد من سرعة تغيير القيام الاجتماعية. ومن المثير للحيرة أن الناتج المحلي الإجمالي لبلادنا أكبر من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم جيراننا في غرب أفريقيا. وعليه، فمن الصعب تفسير تزايد الهجرة هذا على أساس العوامل اقتصادية وحدها. في الواقع، لطالما هاجر الموريتانيون وأسسوا متاجرهم في بلدان غرب إفريقيا. فهل إن الولايات المتحدة أصبحت هي السينغال أو ساحل الجديد؟.


تلاشي‏ الأمل في الحصول على مصادر دخل توفر ‏مستويات حياة تعتبر مرضية

 ‏ هذا ‏النقطة شائكة ومن الصعب تحليلها بشكل موضوعي دون توفر بيانات تجريبية لأن مستوى المعيشة المقبول لدى فلان ‏يختلف عن علان، ‏لكن يمكننا تفسيرها اعتمادا على نظريات ‏مستخلصة من ‏مراقبتنا لأحداث وملاحظتنا للسلوك المجتمعي وسيكولوجيته.

 

 ‏فمن المعروف أن شريحة عريضة من المجتمع الموريتاني ‏تتفانى ‏في التفاخر ‏بالمظاهر والتنافس بين أفرادها، فطالما سمعنا أفراد عائلتنا يطالبون بهاتف محمول من هذا النوع ‏أو ‏حقيبة يد نسائية من ماركة معينة أو يلحون ‏على صرف مبالغ تفوق قدراتهم في حفلات الزفاف‏ كمحاولة للظهور ‏بمظاهر ‏توحي بالمساواة مع أقاربهم أو جيرانهم أو ‏أصدقائهم دون‏ ‏إعارة أي أهمية ‏لواقعهم واستطاعتهم الفعلية ‏وكأنهم يعيشون في ‏أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة.

 

 ‏هذا مثال بسيط يوضح مدى اعتماد السلوك الاجتماعي على المظاهر الخارجية ‏سعيا منهم باكتساب ‏مرتبة اعتبارية جديدة في المجتمع أو المحافظة على أخرى قد نالوها مسبقا. ‏أما السيكولوجية المسببة لهذا السلوك ‏فهي الانطباع أو الاعتقاد الخاطئ أن من هو أقل مصادر مالية أو ذا مظاهر متواضعة هو حتما ‏أضعف ‏جهدا ‏أو أقل ‏ذكاء ‏أو أكثر بخلا ‏إلى غير ذلك من ‏الأوصاف التي تتضمن أنه شخص غير جدير بالاحترام ‏أو التقدير.

 

 ‏ورغم أن هذه ‏معايير قد لا تكون معلنة ‏أو تناقش بشكل مفتوح ‏إلا أنها تظل تتسرب ‏من واقعة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر حتى تترسخ في ممارسات واعتقادات ‏أفراد المجتمع ‏بوعي أو من غير واعي. ‏ ‏فمهما صعب تحديد ‏مستوى المعيشة المقبول بصفة عامة، ‏ ‏يظل من السهل علينا أن نتوقع أن الغالبية العظمى تطمح ‏ ‏إلى تحقيق ‏مستويات معيشية ‏لهم ولأفراد عائلاتهم هي أقرب إلى القمة من المتوسط. ‏الأمر الذي يدفع بالكثيرين ‏إلى اللجوء ‏إلى طرق الكسب السريع مثل تضمن ‏محاولة الهجرة إلى البلدان الغربية، ‏إذا لم يتيسر لهم ‏إيجاد وسيلة لنهب الأموال العامة ‏أو ابتزاز المواطن البسيط ‏الذي لا حول له ولا قوة.

 

إغراء مستويات الدخل التي يتوقع ‏تحصيلها بعد الوصول ‏إلى الدول الوجهة

‏ ‏المحور الأخير ‏وربما الأهم ‏هو ‏مبالغ الدخل ‏المغرية التي يتوقعه المهاجرون المستقبليون الحصول عليها في هذه الدول. ‏فعلى سبيل المثال قد يبني المهاجر حساباته على أن المبلغ الأدنى الذي يتقاضاه العامل الأمريكي هو 12 دولارا في الساعة. ‏ ‏وبناء على هذه الحسابات قد ‏يتصور أن ‏بإمكانه الحصول ‏على أكثر من 700 دولار في الأسبوع الواحد ‏إذا تمكن من العمل ‏لمدت 60 ساعة، ‏أو ما يزيد على 250,000 أوقية (قديمة) ‏في الأسبوع أو أكثر من 1,000,000 أوقية في الشهر. ‏فسرعان ‏ما تبدو هذه ‏المبالغ ‏‏مغرية إلى درجة يصعب على الكثير مقاومتها‏ ‏مما يفقدهم ‏الرغبة في بذل أي ‏جهد ‏لمحاولة إيجاد فرصة عمل محليا. ‏أضف إلى ذلك، ‏أن فرصة الحصول على عمل أو وظيفة في موريتانيا قد تكون صعبة وربما تتطلب ‏استخدام ‏أساليب الوساطة والنفوذ والرشوة ‏التي قد ‏لا تكون متاحة للجميع ‏مما يرجح كفة الميزان باتجاه محاولة الهجرة إلى الخارج والتي يعتبرها البعض الخيار الأفضل على أي حال.