على مدار الساعة

حول اللغة والهوية في موريتانيا

13 نوفمبر, 2020 - 15:41
عمر السالك بن الشيخ سيدي محمد

ذاتَ مساءٍ موسكوفيّ، في العام 2007، جاءني مُـسْـتـاءً أستاذي في الترجمة واللغة الروسية، الذي كان في الوقت نفسه زميلي في العمل في قناة روسيا اليوم: الأستاذ الدكتور عبدالسلام شهباز، حفظه الله.. جاءني مستاء، وقال لي:

 

جئتك الآن من اجتماعٍ لرؤساء الجاليات في موسكو، فأنا رئيس الجالية العراقية، وقد ساءني أن رئيس الجالية الموريتانية لا يتحدث العربية!!

 

فكيف لشخص يحمل جنسية بلد المليون شاعر أن يجهل العربية جهلا مطبقا؟!

 

وأضاف قائلا: لا أصدّق هذا! فنحن، العاملين في روسيا اليوم، إذا اختلفنا في اللغة أو النحو فإنما نلجأ إلى ابن شنقيط، الذي رضينا به حَكَماً بيننا، يُبَيّن لنا الصواب ويَعْضُدُه بنصوص ومتون يحفظها.. ما شاء الله!

 

فقلت له: هوّن عليك! فلدينا في موريتانيا مواطنون أفارقة ليسوا عربا ومعظمهم لا يتحدث العربية.

 

فقال لي: كيف يكون مواطن في دولة لا يتحدث لغتها الرسمية؟!

 

أوليس الحصول على جنسية أي دولة في العالم مشروطا بتجاوز امتحان باللغة الرسمية لتلك الدولة؟!

 

أما المواطنون بالميلاد فلا بد أنهم سيدرسون -حتما- باللغة الرسمية لوطنهم.

 

يقول محدثي: انظر إلى اسمي (شهباز)، أليس واضحا منه أنني لست عربيا؟!

 

إن لدينا في العراق أعراقا وقوميات وطوائف وديانات مختلفة.. ولكن اللغة العربية هي لغة الدولة ولغة الدراسة، ثم إن تَعلُّمها مَكسبٌ في حدّ ذاته، ولولا أنني وإياك نعرفها لما جمَعَنا العمل في هذه القناة الروسية الناطقة بالعربية.

 

لقد صَدَقَ، واللـهِ، أستاذي البروفيسور عبدالسلام شهباز. ولا شك أن الموريتانيين أولى بالاهتمام باللسان العربي أكثر من اهتمام أشقائنا العراقيين، نظرا للفسيفساء المكونة لألوان الطيف العراقي (من الأكراد، والتركمان، والفرس، الإيزيديين، والسنة، والشيعة، والمسيحيين...الخ)... بينما لا تجد في موريتانيا إلا دينا واحدا (هو الإسلام) وطائفةً واحدة (أهل السنة)، بل إننا نتعبد الله بمذهب واحد هو مذهب إمام دار الهجرة.

 

وبحديثي مع أستاذي الدكتور شهباز، عرفت أن أخي تبسيرو معتمدٌ لدى مجلس الدوما الروسي، باعتباره رئيسا لجاليتنا في موسكو، حين كنّا -حينئذ-ثلاثة نَفَرٍ فقط: أنا وتبسيرو وديدي:

 

1. فأنا مراسل تلفزيوني متجول: أُصبحُ في موسكو، وأظل في سمولينسك، وأُمسي في الشيشان؛

2. وأخي تبسيرو يعمل بنفسه لنفسه (self-employmed)؛

3. وثالثة الأثافي: أخونا ديدي، ممثل مسرحي وسينمائي، له حضور في الأفلام والمسلسلات الروسية.

وفي أول لقاء لي برئيس جاليتنا في موسكو، تبيّن لي أنه يفهم الحسانية فهما جيدا، ولكنه لا يتكلمها، وتلك حالي مع اللغة الفرنسية التي هي لغتي الرابعة في الترتيب، بعد العربية والإنجليزية والروسية..

فقلت لأخي تبسيرو:

• إن شئتَ تكلمتَ أنت بالفرنسية وسأفهم كل ما تقول. ولكنني، مخافةَ أن لا ينطلق لساني بلغة موليير، سوف أردّ عليك بالحسانية التي يبدو أنك تفهمها جيدا؛

• وإن شئتَ جعلنا حديثنا باللغة الروسية.

فقال لي: بل نتحدث باللغة الروسية؛ تفاديا لأي تشتت الذهني.

 

ومنذ ذلك الحين وأنا وأخي تبسيرو لا نتحدث  فيما بيننا إلا بلغة بوشكين، وعندما يكون معنا أخونا ديدي نتكلم تلقائيا بمزيج من الحسانية والفرنسية، ويوزع ديدي نكاته الظريفة بذلك المزيج اللغوي، فأنسى جهلي بالفرنسية وينسى تفسيرو أنه يجهل الحسانية!

 

وذات يوم، كنت أنا وأخي تبسيرو في ضيافة سعادة السفير، معالي المهندس سيدي محمد ولد الطالب اعمر، الرئيس الحالي للحزب الحاكم (حزب الاتحاد من أجل الجمهورية)، وبينما نحن في صالون بيته العامر، في الطابق العلوي من مبنى سفارة بلادنا في العاصمة الروسية، إذ ذهب عنا هُنَيْهَةً ثم عاد فوجدنا نتحدّث باللغة الروسية، فقال لنا: كيف تتحدثان باللغة الروسية وليس معكما روسي؟!

 

فقلت له: يا صاحب المعالي والسعادة، تلك -للأسف- مخرجات التعليم في بلادنا، حرسها الله:

- فأخي تبسيرو درس في موريتانيا باللغة الفرنسية ثم أكمل دراسته في روسيا، فلم يتعلم العربية للأسف!

- وأنا درست الابتدائية والإعدادية في مدينة سبها الليبية، ثم عاد بي والدي إلى موريتانيا فدرست في المحاظر، وترشحت مباشرة لباكلوريا التعليم الثانوي، ولم أدرس الفرنسية إلا في الجامعة؛ باعتبارها مادة ثانوية في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وفي قسم القانون الخاص بكلية العلوم القانونية والاقتصادية (المصطلحات القانونية)، ثم غادرت الوطن ودرست في بريطانيا وعملت في دبي وموسكو.. وطيلة عقد من الزمان لم أسمع جملة باللغة الفرنسية إلا نادرا عند بعض الموريتانيين... ولولا جهودي الفردية لظَلْتُ أجهل الفرنسية جهلا مطبقا حتى الآن!

 

أما بعد،،

فأرى أنه لا مناص من اعتماد سياسة تعليمية صارمة، تجعل لغة القرآن هي لغة الدراسة في بلادنا، مع تدريس اللغات الوطنية لمن شاء، واللغتين الفرنسية والإنجليزية.. كل ذلك بصفة جادة، تراعي وتتّبع الطرق الحديثة في تعلم اللغات، ولا تهمل أو تقتصر على مناهج أُعدّتْ في القرن الماضي.

 

ذلك بأن مفهوم "الأمية" لم يعد مقتصرا على "الأمية الأبجدية"، بل اتسع كثيرا؛ ليشمل أنواعا من الأمية لعل أهمها: الأمية الحضارية، بفروعها المختلفة، في مجالات: الفكر والعقيدة، والصحة،  والتكنولوجيا.. وهي مجالاتٌ تلعب الثقافة اللغوية دورا بارزا في محو الأمية فيها... وكلما تعددت لغات الباحث؛ تعددت فُرَصُهُ في الحصول على المعلومة والوصول إلى الغرض المنشود.

 

وبناء على ما تقدم وتأسيسا عليه: فإننا نطالب بترسيخ هويتنا الثقافية والدينية، مما يستلزم إعلاء شأن اللغة العربية.

كما نؤكد في الوقت ذاته: أنْ لا مناص من مواكبة التقدم العلمي الحديث، مما يتطلب الاهتمام باللغات الأجنبية وتدريسها بشكل يحقق الهدف المنشود من التهذيب والتربية والتعليم:

• فلُغَةُ القرآن مُعينةٌ على ترسيخ العقيدة التي هي آكد المهمات، وبذلك تكون اللغة العربية فريضة وغاية في حد ذاتها، كما أنها وسيلة لتوسيع الثقافة الإسلامية التي لم يُكتب عنها بأي لغةٍ مِعْشارُ ما كتب عنها باللغة العربية؛

• وأما اللغة الفرنسية فهي، وإن لم تكن رسمية في البلد فإنها: لغة الظل، ولا تزال متغلغلة في الإدارة، ومن لا يجيدها فمن الصعب عليه "إتقان" قوانيننا الوطنية التي كُتب معظمها بالفرنسية ثم تُرجم ترجمةً ركيكة إلى اللغة العربية! كما أن الفرنسية تعتبر لغة انفتاح على محيطنا الجغرافي والفرانكفوني عموما، وستظل كذلك حتى حين. فلا بد من تَعلُّمها؛

• وأما اللغة الإنجليزية فهي اللغة الأولى في العالم، وهي لغة التقدم والصناعة والتكنولوجيا، ولا يسع المثقفَ جهْلُها.

 

وعموما: فينبغي العمل على تحقيق الانسجام (لا الصدام) بين لغة القرآن والدستور؛ وبين اللغات الأجنبية، وخصوصا: الفرنسية والإنجليزية.

 

كما لا محيد لنا عن الجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ بحيث نسير في ركب التقدم ونستفيد من الحداثة، متضلعين بعقيدتنا الغراء، ومتشبعين بموروثنا العلمي والفكري.. فتترسخ هويتنا الثقافية الجامعة، وتتطور جمهوريتنا الإسلامية في مجالات التنمية عموما، وفي مقدمتها التنمية البشرية.

وكل عام وموريتانيا بخير