على مدار الساعة

الخليل النحوي.. فتى الأحلام

4 سبتمبر, 2018 - 23:20
القاضي عمر السالك بن الشيخ سيدي محمد

توطئة:
عرفت الشيخ الدكتور الخليل النحوي، منذ حوالي ربع قرن. وظلّ من أحبّ الناس إلى قلبي.. لا يتغيّر.. "والإنسان قد يتغيّرُ"!

 

وحين أعلن الرجل الوقور ترشُّحَه؛ فرحتُ أيّما فرح، وعلمتُ أن الله أراد خيرا بموريتانيا والموريتانيين.

 

والتزاماً بواجب التّحَفُّظ وأخلاقيات مهنة القضاء، كَتَمْتُ إيماني بالرجل إذّاك، حتى لا يُعتبر حديثي عنه دعايةً سياسيةً وحملةً انتخابية.

 

والآن، وقد انتهى العرس الديمقراطي وظهرتْ من نتائجه مؤشراتٌ كثيرة تدلّ على أن البلاد بخير.. فقد جاز للقاضي أن يبوح بمشاعره، وآن لأبي حنيفة أن يمدّ رجله.

 

في العام 1997م، زارنا الشيخ الجليل / الخليل النحوي، في الإمارات، ممثلا للمنظمة، وبدعوة رسمية من دولة الإمارات، حرسها الله.

 

ففكرتُ: بِـمَ أستقبل الرجل الذي أكنّ له من التقدير ما لا يشاركه فيه إلا ثلاثةٌ من شيوخي، هُم: 

- والدي حفظه الله؛

-  وخليلُه، الشيخ الإمام الأوحد / محمد حامد بن حميدي طيب الله ثراه؛

وشيخاهما:
- قاضي القضاة، معالي العلامة / محمد سالم بن عدّود رحمه الله؛

- وشيخ المصر، الإمام/ بداه بن البوصيري، تغمده الله برحمته.

 

وما هي إلا هنيهة؛ حتى راودني الشعر عن نفسه، فكتبتُ هذه الأبيات المتواضعة، ترحيبا بالخليل النحوي: 

رأيتُ مَصُونةً حسناءَ فاقتْ *** نساءَ الكونِ.. ليس لها مثيلُ

فقلت: مَنِ المصونةُ؟ ليت شعري! *** وما هاذِي الحُقول.. وذي السهولُ!

فقالت: إنني شنقيطُ.. عندي *** حكاياتٌ وتاريخٌ أصيلُ

فماذا تَـبْـتَـغـي مِنّي؟ تَكَلَّمْ *** فقلت لها، وأعني ما أقولُ

أيا شمسا تَمَايَسُ في ضُحَاهَا *** تُضيء الكونَ؛ ليس لها أُفولُ

وصَرْحاً مَعْرِفيّاً مَغربيّاً *** له إشعاعةٌ وصَدًى جميلُ

أيا شنقيطُ، هل لك في وصالٍ؟ *** فقالتْ: ما إلى وصْـلِـي سبيلُ

فلا أرْضَى الزواجَ بِـغَـيْـر كُـفْءٍ *** وكُـفْـئِـي اليومَ - في الأحْيَا - قليلُ

فتى الأحلامِ" أين أراهُ؟ قُل لي! *** فقلت لها: فتاكِ هو الخليلُ

"خليل النحو"، وهو "خليلُ" فقه *** وفي الآداب واللغة "الخليلُ"

فتًى عن كابرٍ نال المعالي *** أبِـيٌّ كَـيِّـسٌ، شهْمً، نبيلُ

سَخـيٌّ، بيِّنُ التقوى، نَقِـيٌّ *** وأوصافٌ له حُسْنَى تطُولُ

ولستُ مُبالغاً في الوصف، كَلاّ *** فقَوْلي فيه يَعْضُدُه الدليلُ

سلي إن شئتِ أرْوِقةَ المعالي *** تُجِبْكِ بأنّهُ فيها يجولُ

وأنْدِيَةَ الثقافةِ فاسأليها *** ففيها للفتى باعّ طويلُ

ألا فلْتَسْعَدِي، شنقيطُ، دوماً *** فعُرْسُكِ عندنا عُرْسٌ جميلُ

 

أما بعد،،
فإنني أهنّئ موريتانيا، رئيساً وحكومة وشعبا؛ على قبول سماحة الشيخ الجليل / الخليل النحوي؛ أن يكون جزءاً من السلطة التشريعية في بلادنا حرسها الله، فهو محل إجماع بين ألوان الطيف السياسي؛ لا في موريتانيا وحدها، بل في أفريقيا والعالم العربي. هكذا أحسبه، ولا أزكّي على الله أحدا.

 

تَـتِـمّـة:
في صغري، قرأتُ للرجل وعنه؛ شعرا ونثرا.. ثم شرُفْتُ بلقائه والمشاركةِ معه في ملتقياتٍ علمية ومؤتمرات دولية.

 

رأيت الشيخ الخليل النحوي أول مرة، عام 1994، ومكثنا أياما في مدينة القيروان التاريخية، فتذكّرت الحديث النبوي الشريف: "يا زيد الخيل، كُـلُّ رجُلٍ وُصِفَ لي وجدْتُه دُونَ الصِّفة، إلا أنت؛ فإنك فَوق ما وُصِفْتَ"! ثم وجدتُني، في الشيخ الخليل النحوي، أحَقَّ من ابن هانئ الأندلسي؛ بقوله في ممدوحه:

 

كانتْ مُساءلةُ الرُّكبان تُخْبرنا *** عن جعفرَ بْنِ فلاحٍ أطيبَ الخَبَرِ
ثُـمَّ الْـتَـقَـيْـنَـا، فَلاَ واللَّـهِ ما سَمِعَتْ *** أُذْنِي بأحْسَنَ مما قد رأى بصري!

 

وأحقَّ فيه من مُـجاري ابْنِ هانئ، بقوله في ابن علي:

كانت مُساءلةُ الركبان تُخْبرني ***عن أحمدَ بْن عَـلِـيٍّ أطيب الخبر ...الخ

 

ثم أيقنت أن شاعر العرب، أحمد بن الحسين "المتنبّي"، لو عَرَفَ الخليل النحوي؛ لَعَلِمَ أنه أحقُّ من علي بن أحمد الأنطاكي، بقول أبي الطيب:

 

وأستَكبِرُ الأخبارَ قبل لِقائه *** فلَما الْتقينا صَغَّرَ الخَبَرَ الْـخُـبْـرُ

 

نعم، في العام 1994م، حين كنت فتًى عشرينيّا، أكرمني الله بالمشاركة في مؤتمر فقهي دولي:

- كان فيه الخليل النحوي حاضرا، ممثلا للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم؛

- وكان العلاّمة المرحوم / الشيباني بن محمد بن أحمد النجمري، ممثلاً لإمارة أبوظبي؛

- وكنت ثالثهما من الموريتانيين؛ ممثلا لإمارة دبي حرسها الله.

وكان مكتوبا في لوائح اللجنة المنظمة للمؤتمر: أن موريتانيا سوف يشارك منها عالمان؛ هما:
- سعادة الأستاذ القدير والشيخ الكبير / يحيى ولد فَتًى؛

- ومعالي المفكر الإسلامي/ أبوبكر بن أحمد.

 

ولكن الوفد الموريتاني غاب عن المؤتمر ، لأسبابٍ قيل إنها تتعلق بخطوط الطيران!

 

وفي نهاية الملتقى: قال الناطق باسم الملتقى، محمد صلاح الدين المستاوي، الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى (في تونس): "نحمد الله أن غاب وفد موريتانيا؛ وإلا كان المؤتمر موريتانيا بامتياز".

 

أجل! كان الخليل النحوي خيرَ ممثل لبلاد شنقيط المنارة والرباط، وأفضلَ مُنافحٍ عن "أفريقيا المسلمة وهويتها الضائعة".

 

وخلال إحدى جلسات المؤتمر، يشاء الله أن أدخل في نقاش علميّ أصطدم فيه بمستشرق ألماني شهير، حقّق كثيرا من كتب التراث، هو الأستاذ الدكتور / ميكلوش موراني، رئيس مركز الدراسات الإسلامية في بون بألمانيا، حينئذ.. 

 

وذلك أنه قال في محاضرته: إن ابن حجز كذّاب؛ لأنه نقل كلاما عزاه إلى كتاب "الثقات" للحافظ العِجْلِـيّ، والكلام ليس موجودا في النسخة المطبوعة، بتحقيق الدكتور / ميكلوش موراني.

 

ظننتُ أن المستشرق الألماني سيجد ردّاً سريعا من لَدُن أحد جهابذة العلماء المشاركين.

 

ولكن أحدا لم يُجبْه، فطلبتُ الكلام، وسخّر الله لي حُسْن جوابه فحَجَجْتُه وأفحمته، وطلبتُ من رابطة العالم الإسلامي، ممثلةً بنائب أمينها العام، المرحوم / الشيخ الشاذلي النيفر.. إعادةَ تحقيق كتاب "الثقات" للإمام العِجْلي؛ لأن محققه الدكتور ميكلوش موراني جاهل بأبجديات البحث العلمي! إذ من الواضح أنه اعتمد على نسخة مخطوطةٍ ناقصة، بدليل: هذا النص الموجود في فتح الباري معْزُوّاً للكتاب بنسخته الكاملة... ثم استفضت في الحديث، وبيّنت مكانةَ الحافظ ابن حجر عند المسلمين، ودقّة حفظه؛ ومكانة ميكلوش موراني الذي يحقق كتب التراث على نُسخٍ ناقصة يظنّ أنها كتاب منزل...

 

وقلت كلاما لا يقوله أهل إگيدي، عادةً، وزاد من حدّته عنفوان الشباب، والغيرة على الدين، والذب عن أعراض علماء المسلمين.

 

وقبل أن أخرج من قاعة المؤتمر، شجّعني أستاذي الخليل النحوي وأعطاني ورقة كتب فيها بخطه:

لما تبدّتْ لنا من لفظِهِ دُرَرُ *** يخالِطُ العِلْمَ فيها الفكْرُ والنظرُ

أنشدْتُ والنفسُ نَشْوَىٰ من مَناقِبِهِ ***"نِعْمَ الفتى عمرٌ، نِعْمَ الفتى عمرُ"

 

قرأت البيتين، فوجدتني أحقَّ من "أمّ زرْعٍ" بقولها (الذي رواه البخاري ومسلم): "وبَجَّحَنِي فبَجِحَتْ إلَـيَّ نفسي"!

 

أما بعد،،

فقد كان في ذلك المؤتمر كوكبةٌ من العلماء والباحثين، ممثلين دولاً أجنبية من بينها: فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وألمانيا، فضلا عن بعض الدول العربية والإسلامية..

 

وكان الخليل النحوي بينهم مثْل شمس الضحى، "تَذَرُ النجومَ شواخصاً إذ تَسَطَعُ"..

 

كل ذلك، في تواضع فريد، وسكينة نادرة، وحِلم وأناة، ووقار وأدب جمّ. 

 

هنيئا للبرلمان الموريتاني بالشيخ الأستاذ الدكتور / الخليل النحوي.. أطال الله بقاءه، في طاعته.