انشغل الناس بالحديث عن الفساد ومكافحته، ولهم الحق في ذلك في بلد يحتاج شعبه إلى كل أوقية من موارده، وغلب على أمر مكافحة الفساد الجهد القانوني والقضائي وهو على أهميته ومكانته لا يغني شيئا عن النظر في فلسفة الفساد لاجتثاثها من جذورها ومعالجة الأسباب قبل النتائج والنوايا قبل الأفعال. وفي هذا السياق ليأذن لي أصحاب الشأن أن أتطفل عليهم بأربع قضايا قد يقال إنها عامة جدا ولكنها هامة كذلك في فك ألغاز ظاهرة الفساد.
الأولى: لا بد في هذا الباب من إفساح المجال للدين والأخلاق، لما لقيم الإسلام الربانية والرقابة الأخلاقية الذاتية من أثر في كل مجالات الحياة، وذلك بإضافة الوعي والتوعية بهذا الداء لبرامج التعليم والتأهيل والتكوين والتدريب، والاستعانة بأهل الرأي والخبرة في هذا المجال لخلق ثقافة الورع عن المال العام وجعلها سلوكا عفويا عاديا لدى كل فرد من أفراد المجتمع قدر الإمكان.
شاهدت مرة برنامجا وثائقيا عن واحدة من أقل الدول فسادا في العالم، دولة النرويج، ولفت انتباهي ذهاب كثير من الخبراء إلى تعليل ذلك بثقافة المجتمع، وأرجعوا ذلك لبدايات دخول الدين المسيحي لتلك البلاد، وكون دعوة المسيحية وصلتهم عن طريق زهاد بيوريتانيين تركوا بصمتهم في الدولة والمجتمع حتى اليوم. فأين مكان ومكانة علمائنا ومشائخنا من مكافحة الفساد؟
الثانية: بما أن المواعظ وحدها لا تكفي الجميع وإنما تنفع المؤمنين، فلا بد من وضع أداة إجرائية للتأكد من نقاء سيرة وسريرة الموظفين العموميين الكبار عند ترشيحهم للمناصب وقبل تعيينهم فيها، ويمكن أن يكون ذلك عن طريق مناقشات برلمانية علنية يتلوها تصويت كما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن أن يكون عن طريق استحداث هيئة تراجع السير الذاتية للمرشحين للمناصب أو بتوسيع صلاحيات هيئة مكافحة الفساد للقيام بذلك على أن تكون توصياتها باستبعاد شخص من تولي المنصب مسببة وملزمة للجميع. ومع هذا أو ذاك سيكون للإعلام فرصة كافية لتعميق النقاش حول أسماء المرشحين وتجاربهم وسوابقهم، وستخلق هذه الإجراءات جوا من الحذر يضمن الوقاية في الوقوع في الأخطاء والخطايا التسييرية.
الثالثة: لم أجد من انتبه إلى تعليل الفساد في كثير من دولنا بأعمق مما علل به عبد الوهاب المسيري هذه الظاهرة، مشيرا إلى أن من يقعون في الفساد ليسوا منحلين أخلاقيا ولا يستبيحون من المحرمات غير المال العام. فلم يا ترى؟ يفسر المسيري الأمر تفسيرا تاريخيا كما فُسّر من قبلُ الرشاد المالي تفسيرا يغوص في أعماق التاريخ. يقول المسيري إن الدولة الحديثة نشأت في أغلب بلداننا بأيدي المستعمر الذي لا يختلف الناس إلا في أن منهم من يكن له العداء ومنهم من يظهره، ومن ثم فما دامت الدولة دولته والمال ماله والقانون قانونه في شعور ولا شعور الناس فإن هدم دولته والتحايل على قوانينه والاستيلاء على أمواله باب واسع من أبواب الحلال. وحتى لو تغير الزمن وخرج المستعمر واستقلت الدول فإن هذا الشعور ما زال يتلجلج في صدور كثير من الناس صالحين وطالحين.
الرابعة: ومما سهل هذا الزعم عموم المال وكونه ملكا للدولة دون تحديد مالك معين، فصار كما يقول الفقهاء أشبه بملك غير كامل يبحث عمن يكمله، وللخروج من هذا الشعور أرى أنه لا بد من تطوير آلية صياغة الميزانية العامة للدولة، وتفصيلها أو تفصيل الجزء الخدمي منها على الأقل حسب الولايات أو الجهات، على أن تفصل لاحقا حسب التخصصات التقليدية، فما دامت ميزانية التعليم مثلا رقما واحد بعيدا عن مالكه فسيكون الفساد فيه أسهل من المال الذي تحت يد ملاكه الحقيقيين من أهل الولايات والجهات ومن ينوبهم. ولن يتأتى ذلك إلا بإشراك أهل كل جهة في تسيير ورقابة أموالهم العمومية. وإني على يقين من أن الفاسد ولو كان فاسدا حقا سيستحيي من اختلاس أرزاق أهل منطقته ويخاف العار والفضيحة أمام عيونهم أكثر مما يخافها في مكان لا يعرفه فيه أحد. وقد حدثني أحد الظرفاء قال إنه يحب الاستماع لأحاديث الجهال، وإن من أهم ما تعلمه من حسن أخلاقهم النادر أن "الحرامي لا يسطو في حارته".

.gif)
.gif)













.png)