أظهرت دراسة صادرة عن المعهد الفرنسي للرأي العام (IFOP) أن أكثر من 80 في المئة من الشباب المسلمين في فرنسا يُعرِّفون أنفسهم بوصفهم متدينين ومتمسّكين بتعاليم دينهم.
وقد أثار هذا المعطى موجة قلق في بعض الأوساط الثقافية والسياسية والإعلامية الفرنسية.
ولا يقتصر هذا القلق على النخب غير المسلمة؛ إذ يشارك فيه أيضًا مثقفون وسياسيون من أصول مسلمة ما زالوا ينتسبون إلى الهوية الإسلامية، لكنهم تبنّوا المنظور اللائكي الصارم معيارًا وحيدًا لـ«الاندماج الناجح».
اللافت أنّ هذا النقاش يُدار في كثير من الأحيان بنبرة استغراب وارتياب، وكأنّ تمسّك الشباب المسلم بدينهم يشكّل تهديدًا للنموذج الجمهوري، لا ممارسة طبيعية لحرية فردية يكفلها الدستور.
العلمانية الفرنسية: من مبدأ قانوني إلى مشروع ثقافي
لطالما كانت العلمانية (اللائكية) ركيزة مركزية في الحياة السياسية والاجتماعية الفرنسية، غير أنّها تحوّلت تدريجيًا من مبدأ قانوني يفصل بين الدولة والدين إلى مشروع ثقافي يسعى إلى تحييد الرموز والممارسات الدينية من الفضاء العام. وضمن هذا السياق، يُفسَّر كل تعبير ديني - خصوصًا حين يكون إسلاميًا - بوصفه خروجًا عن "النموذج الجمهوري" الذي يُفترض أن يتخفف من الانتماء الديني لصالح هوية مدنية مجردة. وهكذا، كلما أظهر الشباب المسلم تمسّكًا أكبر بدينهم، تزايد في أوساط معيّنة شعورٌ بأنّ الهوية العلمانية مهدّدة.
إرث تاريخي لم يُستوعَب بعد:
لا يمكن فهم حساسية بعض النخب تجاه الإسلام دون العودة إلى التاريخ المعقّد الذي ربط فرنسا بالعالم الإسلامي، سواء في الحقبة الاستعمارية أو في موجات الهجرة اللاحقة. فقد خلّف الاستعمار تصوّرات نمطية عن الإسلام بوصفه «دينًا تقليديًا» أو «عائقًا ثقافيًا»، وما تزال هذه الصور راسخة في اللاوعي الجماعي المؤثر في صناعة الرأي.
نتيجة ذلك، يُقرأ تديّن الشباب غالبًا قراءةً خاطئة، بوصفه رفضًا للهوية الوطنية، بدل النظر إليه كبحث طبيعي عن الانتماء والهوية في زمن التحولات الاجتماعية الكبرى.
فشل سياسات الاندماج: عندما يتحوّل الدين إلى شماعة
بدل معالجة الأسباب الاجتماعية العميقة - مثل التمييز في سوق العمل، والتهميش في الضواحي، وضعف العدالة الاجتماعية - تميل شرائح واسعة من النخبة الفرنسية إلى تفسير أي تحوّل سلوكي أو قيمي لدى الشباب المسلمين باعتباره "أسلمة" أو "تشددًا". هذا التفسير السهل يختزل واقعًا مركبًا، ويحوّل الدين إلى شماعة جاهزة تُعلّق عليها إخفاقات الدولة في ملفات التعليم، والسكن، ومحاربة الفقر.
الخلط بين التديّن والتهديد الأمني
تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في ترسيخ هذا التصور. فكل ازدياد في مظاهر التديّن لدى الشباب المسلمين يُقرأ - في كثير من الأحيان - من منظور أمني. وهكذا تتحول ممارسات دينية طبيعية، مثل ارتداء الحجاب، أو المواظبة على الصلاة، أو التحفّظ تجاه بعض مظاهر الانحلال، إلى مؤشرات «مقلقة» في المخيلة العامة، رغم أنّها لا تتعارض مع القانون ولا تشكّل أي تهديد فعلي.
ازدواجية المعايير: لماذا لا يُنظر إلى تدين الآخرين بالمقدار نفسه من الريبة؟
ثمة تناقض صارخ في المشهد الفرنسي: عودة مجموعات شابة مسيحية أو يهودية إلى الشعائر الدينية لا تثير نقاشًا وطنيًا واسعًا، في حين يتحول تديّن المسلم إلى قضية سياسية واجتماعية. هذا الاستثناء الفرنسي تجاه الإسلام يعيد طرح أسئلة أخلاقية وسياسية حول حياد الدولة تجاه الأديان، وحول قدرة النخب على التحرّر من صور نمطية لم تعد تعكس واقع فرنسا المتعددة.
جيل جديد يفرض وجوده
الحقيقة التي يصعب على البعض تقبّلها هي أنّ الإسلام في فرنسا لم يعد دين المهاجرين فحسب، بل أصبح جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي. شباب المسلمين اليوم—وهم أبناء المدرسة الفرنسية ومواطنيها—لا يطالبون بأكثر مما يطالب به غيرهم:
الاعتراف بهويتهم، واحترام خياراتهم الدينية، ورفع الوصاية الثقافية المفروضة عليهم من بعض الأصوات النخبوية.
أخيرا: الخوف من الإسلام ليس قدرًا فرنسيًا
إنّ تزايد ارتباط الشباب المسلم بدينهم ليس تهديدًا لفرنسا، ولا ارتدادًا عن قيمها الحديثة؛ بل هو تعبير طبيعي عن ممارسة الحرية الفردية التي تقوم عليها الدولة الديمقراطية. وإذا أرادت النخبة الفرنسية مقاربة الظاهرة بموضوعية، فعليها التحرّر من إرث الريبة التاريخي، والنظر إلى الإسلام باعتباره جزءًا من حاضر فرنسا ومستقبلها، لا «مشكلة» يجب حلّها.

.gif)
.gif)













.png)