حين يتحوّل المواطن من شاهدٍ على الدولة إلى ديكورٍ في مسرحها السياسي
"الخوف لا يكون إلا من الحاكم، والطمع لا يكون إلا فيه؛ ومن هاتين الثنائيتين يُعاد إنتاج الخضوع كل يوم".
هل حشدُ المساكين الجياع تعبيرٌ عن دعمٍ لأركان النظام، أم هو إمعانٌ في تدجين الشعب، وتأكيدٌ لثنائيةٍ مَرَضيةٍ مفادها أن الخوفَ لا يكون إلا من الحاكم، والطمعَ لا يكون إلا فيه؟
سؤالٌ يتجدّد في كل زيارةٍ رسميةٍ تُحوَّل فيها مظاهر الاستقبال إلى عرضٍ مسرحيٍّ ضخم، يُراد به إظهار الإجماع الشعبي والرضا العام، بينما هو في جوهره تمرينٌ على إعادة إنتاج الخضوع وتطبيع الفجوة بين السلطة والمجتمع.
الولاء المُمَسرَح: حين يصبح الفقر أداة سياسية
لا ينقضي العجب من نخبةٍ تدّعي محاربة الفساد، وقد أُوكل إليها تسيير شؤون البلاد، فإذا بها تستدعي الجياع والضعفاء تحت شمسٍ حارقةٍ لاستقبال رئيسٍ كان الأجدر أن تكون زيارته مفاجئة، ليتاح له أن يلمس الواقع دون وسائط مصنوعة.
لكن ما يحدث هو العكس تماماً: تُغلق الشوارع، وتُعبّأ القرى، وتُهيّأ الكاميرات، حتى يتحوّل الحدث من زيارةٍ تفقدية إلى مشهدٍ تمجيديٍّ يخفي الواقع بدل أن يكشفه.
إنه الولاء المصنوع بالإكراه الرمزي؛ حيث لا يُطلب من المواطن أن يعبّر عن رأيه، بل أن يُستعمل جسده كأداةٍ لإثبات الشرعية.
نخبةٌ تعيد إنتاج الفساد بوجهٍ جديد
والأغرب أن هذه النخبة، التي ما فتئت تتغنى بشعارات الإصلاح والنزاهة، هي ذاتها التي تُسيّر آلاف السيارات الفارهة في موكبٍ يلتهم الوقود والمال العام.
مشهدٌ فاضحٌ للتناقض بين الخطاب والممارسة: فإما أن تكون هذه السيارات مؤجرةً، وذلك تبذيرٌ سافر في زمن العجز والبطالة، وإما أن تكون مملوكةً لأصحابها، فذلك دليل إدانةٍ صريح على طبقةٍ راكمت الثراء في ظلّ دولةٍ يفترض أنها تحارب الفساد.
إنها الطبقة الوسيطة بين السلطة والشعب، التي لا تنتج إصلاحاً ولا تتيح رقابة، بل تتغذى من بقائها في هذا الفراغ الرمادي بين الولاء والمصلحة. هي الوجه الجديد للإقطاع السياسي الذي يستبدل الأرض بالوظيفة، والعطاء بالعقد، والعصا بالشعار.
سيكولوجيا الجماهير المستعملة
يُظهر علم الاجتماع السياسي أن استدعاء الجماهير الفقيرة في مثل هذه المناسبات لا يهدف إلى إقناعها، بل إلى استعمالها كرمزٍ بصريٍّ للشرعية.
فالمشهد هنا يساوي أكثر من المضمون، والحشودُ تُستدعى لا لتشارك، بل لتُرى.
ومن زاويةٍ نفسية، فإن هذه الممارسة تُغذّي شعورين متناقضين في آنٍ واحد: الخوف من غياب الحاكم، والطمع في عطاياه. وهذان الشعوران هما الركيزتان اللتان تبنى عليهما أنظمة الولاء الريعي في العالم الثالث.
فالفقير لا يُمنح الوعي ليطالب بحقه، بل يُمنح الوهم ليصفق لمن يحجبه عنه.
الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بالحشود
إن ما تحتاجه الدول التي تطمح إلى نهضةٍ حقيقية ليس جماهير تُحشد لتزيين الواجهات، بل مؤسساتٍ تُمكّن المواطن من المشاركة الفعلية في صناعة القرار ومراقبة السلطة.
الزيارة المفاجئة التي لا تُعلَن مسبقاً ولا تُمهَّد لها بالزغاريد واللافتات هي التي تمنح الحاكم معرفةً صادقةً بحال شعبه، وتمنح الشعب في المقابل ثقةً بأن صوته يُسمع دون إذلال.
خاتمة: الوعي هو البداية
إن مشهد حشد الفقراء لا يُعبّر عن حبٍّ للوطن، بل عن عجزٍ في إدارة الدولة وافتقارٍ إلى الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع.
ما لم يُستبدل هذا المشهد بثقافةٍ جديدةٍ قوامها الوعي والكرامة والمحاسبة، فستظل الشعوب تتقن فنَّ التصفيق أكثر مما تتقن فنَّ السؤال.
ولعلّ أخطر ما في الأمر أن الخوف والطمع، اللذين كانا يوماً وسيلتين لضبط المجتمع، قد أصبحا اليوم علامةَ ضعفٍ في سلطةٍ تخشى الحقيقة أكثر مما تخشى المعارضة.
"حين يصبح التصفيق بديلاً عن السؤال، تتحوّل الدولة من كيانٍ وطني إلى عرضٍ مؤقتٍ على مسرحٍ من السراب".

.gif)
.gif)













.png)