"قررت بعض البلدان محاربة الفقر وقررت أخرى التعايش معه وقررت مجموعة ثالثة القضاء عليه والصين من الأخيرة " كانت هذه كلمات صحفي صيني عبّر من خلالها عن نجاح بلاده في انتشال أرقام قياسية من تحت خط الفقر.
اطلعتُ أكثر على مقاربة الصين لمكافحة الفقر أثناء زيارة لإقليم سيتشوان، والمعروف بمسقط رأس حيوان الباندا وجباله ومناطقه الزراعية الشاسعة. مطار هذا الإقليم هو الرابع صينيا من حيث الحجم وعدد الرحلات، والثالث من حيث عدد المطارات بعد كل من بكين و شنغهاي كما يعتبر سادس أقوى إقليم صيني اقتصاديا.
بدأ الإقليم ينتعش اقتصاديا وصناعيا مع بداية العام 2007، وهو نفس العام الذي أعلن فيه رسميا عن نجاحه في فك عزلة عانى منها لعقود بعد تدشين تسعة خطوط سكك حديد وأكثر من عشرين طريقا حضريا.
يستقطب الإقليم دائما مؤتمرات وملتقيات اقتصادية وسياحية عالمية كان آخرها لقاء وزراء مالية العشرين الكبار وملتقى المنظمات السياحية الأممية.
يفتخر المسؤولون المحليون في الإقليم بنجاح المقاربة الصينية للقضاء على الفقر والمطبقة حسب قولهم في كل الأقاليم والقائمة أساسا على خلق فرص العمل والتعليم والصحة. وعند سؤالهم عن الكيفية بادر أحدهم بالإجابة قائلا إن أول خطوة قاموا بها هي إرسال بعثات إلى المناطق الأكثر فقرا وتسجيل أسماء الساكنة ممن يعتبرون تحت خط الفقر والحرص على عدم تخطي أي اسم ثم بعد ذلك يتم فتح ملف خاص لكل شخص يتضمن معلوماته الشخصية الكاملة ثم تتم دراسة الآلية المناسبة لمساعدتهم كل حسب ظروفه وطبيعة عيشه وقد استمر تجهيز الملفات سنتين.
بعد قيام الجهات المختصة بتقييم الظروف المعيشية في هذه القرى، يتم العمل والحرص على توفير الخدمة الصحية المجانية والمناسبة لأنهم يرون أنه من دونها لن يستطيع المستهدفون متابعة البرنامج، لأن المال قد يحل مشكلتهم يوما أو اثنين لكن الخدمات ستحل مشاكلهم للأبد.
بعدها يتم ضخ مئات مليارات من اليوان في هذه القرى من أجل تطوير البنية التحتية وخلق وظائف جديدة وتوفير جودة تعليم وصحة وفي هذه النقطة ذكر أحد المسؤولين أن المكلفين بهذه المهمة سيخسرون وظائفهم أوتوماتيكيا ويحاكمون في حال لم ينجحوا في أداء المهمة والسبب قال وبكل ثقة أن كل شيء متوفر لإنجاحها وما عدا ذلك لن يخرج من دائرة التقصير والإهمال.
هذا الحرص على رفع مستوى معيشة المواطنين ترجمته السلطات عندما قامت ببناء مدن عصرية متكاملة (يطلقون عليها قرى) للناجين من زلزال عام 2008 المدمر والذي راح ضحيته أكثر من 5000 مواطن، زرتُ هذه "القرى" وأبهرني جمالها وتماشيها مع الحداثة وعند سؤال عن مصاريف السكن قالوا إن السكن سكنهم والخدمات من مياه وكهرباء وغاز وصحة وتعليم يتم التعويض عنها بمبالغ رمزية.
ليس هذا فقط فالمواطن العادي قد يصبح شريكا للدولة يتقاسم معها الأرباح كما حدث في قرية "لي كاونتي" التي قامت السلطات بنقلها عن مكانها من أجل بناء محطة كهربائية عملاقة، وتم فعلا نقلهم وتشييد قرية عصرية متكاملة تضم إلى جانب المنازل الفارهة فندقا من خمس نجوم لكن الملفت أن السكان يتقاضون نسبة من عائدات المحطة الكهربائية التي شيّت في مكان قريتهم القديم.
خطة الصين للقضاء على الفقر تبدأ بتوفير الخدمات العامة من صحة وتعليم وتمر بخلق فرص للعمل وتنتهي بجعل من كانوا بالأمس تحت الفقر، رواد أعمال اليوم. فالحكومة الصينية تتبنى يوميا آلاف المشاريع وتدعم الأفكار من أجل خلق جو تنافسي محفز على الإبداع خصوصا بين فئة الشباب والتي يلاحظ المار من شوارع المدن الصينية استحواذها على أغلب النشاطات والأعمال.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالحكومة المركزية أطلقت برامج لاحتواء ودعم المنتجين وخاصة المزارعين والذين ساعدتهم على تطوير مجالهم وربطتهم من خلال طرق حديثة بالمستهلك.
قرار القضاء على الفقر في الصين مركزي بالدرجة الأولى لكنه يراعي طبيعة وخصائص الأقاليم الأخرى عند تطبيقه فيها، ويهدف في الأساس إلى جعل المواطن العادي شريكا في عملية التنمية وجزء فعّالا من الاقتصاد التشاركي.
نجحت الصين منذ عام 1978 وهو العام الذي شهد انفتاحها على العالم وحتى اليوم في انتشال أكثر من 900 مليون نسمة من تحت خط الفقر مع تركز نشاطها في الفترة الحالية على المناطق الريفية.
يتوقع المسؤولون والخبراء الاقتصاديون أن يتم القضاء على الفقر في الصين نهائيا في عام 2020 مع تخطي دخل الفرد عتبة 4 آلاف يوان.
ما حققته الصين ليس معجزة، وإنما نتيجة لخطط محكمة ودراسة معمقة ومتأنية وحماس وطني وعزيمة وإصرار وإخلاص في العمل.