نعى الناعي أستاذي وأخي الأكبر، وصديقي وزميلي، عبد الصادق بن عيسى، وقد شط بي المزار عن طنجة؛ مدينته التي تعارفنا فيها، وأحبها هو وتعلق بها تعلق العاشقين، حتى أنه ضرب صفحا عن فرص لاحت له للعمل في الخليج أيام الطفرة الإعلامية هناك في عقد التسعين من القرن الماضي، وكان يومها شابا قوي البنية، يتكئ على رصيد مقداره عقد من التميز والتألق في إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية (ميدي1)، حين كان إشعاعها يعم الآفاق، ولغة صقيلة؛ جزلة الأسلوب، متينة البناء، بليغة العبارات، لا حشو ولا تكلف فيها.
عرفت عبد الصادق حين قدومي إلى ميدي1 في أكتوبر 2007، وكان بي حفيا، فقد قرر أن أمر معه على الهواء مباشرة في نشرة الثانية عشرة خلال الأسبوع الأول من انضمامي إلى قسم التحرير، وكان ذلك أمرا نادرا ومغامرة لا تخلو من مخاطر. فالقاعدة المتبعة هي أن يسجل المتدرب تقريره مسبقا تفاديا لأي ارتباك أو ما شابه، وقد كان الراحل، بيير كازلتا، متطلبا جدا بهذا الشأن. ولست أدري هل دافعه إلى ذلك ثقة انبنت على هدي معرفته بمن سبقوني من الموريتانيين، ولا وجه للمقارنة بيننا، فقد كانوا مجيدين جميعهم؛ بيبه ولد أمهادي، دداه عبد الله، باباه سيدي عبد الله، وسيدي ولد النمين.
والراجح عندي أن قرار عبد الصادق، وإن وجد سببه في هذا المعطى، فإنه يعكس كرمه وكفاءته وتواضعه، ذلك أن الكريم مجبول على الإحسان إلى الناس دون أن يسألوه، والكفؤ في تواضع يعتقد أن الناس كلها أكفاء.
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
ظننت ما خصني به من ترحاب وحفاوة لي وحدي دون غيري، وكم كنت خاطئا. فما لقيت بعد ذلك صحفيا في ميدي1 ولا متدربا مر بها إلا وساعده عبد الصادق خلال تدريبه، ورحّب به وأخذه في جولات لاستكشاف طنجة وما حولها، وعرض عليه مساعدة مالية.
امتدت عرى المودة بيننا بعد ذلك، وكان يحرص على اصطحابي صباحا لنفطر في أحد مقاهي المصلى الجميلة، وكان ثالثنا غالبا صديقه الأغر، محمد الجعفري، رحمه الله. ولكن الموت غيبه بعد أشهر قليلة، ورغم ذلك عرفت فيه الشهامة وعزة النفس والكرم وحسن الطوية. وقد كان لين العريكة، طريفا في غير ابتسار ولا إسفاف، ومجيدا متقنا في عمله، يمشي على الأرض هونا لا يرد علوا في الأرض ولا فسادا.
كان عبد الصادق جوادا كريما، لا ينفك يتصل بي ليأخذني في رحلات إلى مناطق جبالة وإلى الريف. وكان عارفا بمجاهيل الطريق الوطنية الرابطة بين طنجة وتطوان وبين تطوان وفاس، وكان يعرف أسواقها الأسبوعية وقبائلها.
من سيرة كرمه ورفعته- وشهدت كثيرا منهما- أنني طلبت منه مرة تسجيل تعليق على فلم وثائقي يعده أحد الإخوة في بواكير دخوله مجال الإنتاج الإعلامي. وقد شرحت له أن الأخ المذكور غير قادر على دفع المقابل المالي للتعليق، وربما يتمكن من ذلك لاحقا، وإن كان الأمر ليس مؤكدا. لبى السي عبد الصادق الطلب بكل أريحية، ونقّح النص وسجله ومدني بنسخة ولم يسألني أبدا عن المقابل المالي.
كان عبد الصادق طريفا ضحوكا في أدب، وكان يتبسط مع البسطاء في الشارع والمحال التجارية والمقاهي ويداعبهم، ويتصدق عليهم.
وما كان قيس هلكه هلك واحد لكنه بنيان قوم تهدما
كان عبد الصادق حريصا على الصلاة في وقتها وبطهارتها، وكان روحانيا، وكان قلبه معلقا ببيت الله الحرام، ورزقه الله حجه في عام 2010 أو 2009 إن لم تخني الذاكرة.
كان آخر لقاء بيننا يوم مغادرتي ميدي1 في صيف 2019. ودّعني والعبرات تخنقه، وما ظننت أنه آخر وداع، وحرصنا قدر المستطاع أن نبقى على تواصل عن طريق الواتساب والمسنجر والهاتف أحيانا. "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله".
أصيب السي عبد الصادق برزء عظيم بوفاة إحدى بناته بوباء كورونا، وأصيب هو نفسه بالوباء إصابة خرج منها سالما، لكنها نالت من صحته، وكابد معها فاجعة فقد ابنته بصبر المتوكلين.
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا فرس تموت ولا بعيـر
لكن الرزية فقـد امرء
يموت بموته خلق كثيـر.
خالص العزاء لأسرة السي عبد الصادق؛ زوجته وأبنائه وبناته وأحفاده، وللإخوة في ميدي1، وللصحافة المغربية والمغاربية والعربية والإفريقية.
رحم الله عبد الصادق بن عيسى وجعله في عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.