على مدار الساعة

أنقذوا إدارة الزكاة!

24 أبريل, 2024 - 17:56
موسى حرمة الله: أستاذ جامعي حائز على جائزة شنقيط

إني إذ أجازف بإثارة انزعاج القائمين على إدارة ملف الزكاة، لا يسعني إلا أن أعود كرّة أخرى إلى هذا الموضوع بوصفي صاحب المبادرة وأبا عُذْرَتِها.

 

ذلك أن تردد الإدارة البيروقراطية وارتباكها يوشكان أن يحرما البلاد من عوائد مورد مالي هائل يدرّ مداخيل تمس الحاجة إليها لإسعاف الغالبية العظمى من المواطنين المعوزين وذوي الفاقة. وتزداد الحسرة على الحرمان من هذا المورد على وجه الخصوص في ظل تناقص العائدات المالية التي كانت منتظرة من الثروة الغازية.

 

أقل ما يمكن قوله في هذا الصدد إن تعليمات رئيس الجمهورية بهذا الشأن لم تطبّق على النحو الذي كان يريده. بل جرى تجاهلها إلى حد بعيد. فعلى مستوى التنفيذ، وقعت مخالفة صريحة لتلك التعليمات الرئاسية لأسباب ودواعٍ لم تُوضّح ولا يمكن فهمها، مما يَنِمُّ عن نية مُبيّتة لعرقلة إرادة رئيس الدولة الذي يحرص على رفاهية المواطنين الرازحين تحت وطأة الفقر والهشاشة. 

 

مساع تخريبية متواصلة

نشاهد اليوم، تحت غطاء الصمت المطبق، عمليةً تخريبية متواصلة بتصرفات خفية وخبيثة ترمي إلى وَأْدِ قضية الزكاة في مهدها.

 

فالمسؤولون القائمون على العملية يمارسون عدة أنماط من التثبيط: التباطؤ غير المتحمّس، عدم الاهتمام المعلن، عوامل الإحباط الرامية إلى إفشال المبادرة، وبالأخص عن طريق طابعها الاختياري، المماطلة في انطلاق الهيئة الجديدة، مما يُوحي بمسار تكْتنفه العوائق والمثبّطات.

 

ولا يمكن إلا أن نندّد بهذا الجو من الاسْتهتار والإهمال البيّن. وما لم تتخذ السلطات العمومية تدابير حازمة فإن إدارة الزكاة ستؤول لا محالة إلى الاضمحلال والتلاشي. فالإجراءات الصارمة الملزمة هي وحدها التي يمكن أن تنقذ الموقف. وكما سبق لي أن اقترحتُ: على الدولة أن تفرض في الوقت المناسب براءة من الزكاة على كل من تلزمه في حالة طلبه لأي ورقة إدارية كجواز السفر أو بطاقة التعريف الوطنية أو أي وثيقة لتوقيع أو تصديق المعاملات.

 

من الأخطاء التي ارتُكبت منذ البداية إتْباع المجلس الأعلى للزكاة لوزارة الشؤون الإسلامية. وهذا إجراء يرفضه المنطق السليم، إذ لم نر قط هيئة عليا خاضعة لوصاية وزارية. ففضلا عما لهذا الإجراء من وقع سلبي من الناحية النفسية فإن من شأنه أن يبخّس من قيمة هذه الهيئة التجديدية التي تستحق أن تتمتع بالاستقلالية.

 

وفي هذا السياق، كان من اللازم أن تحظى إدارة الزكاة بالاستقلالية المالية بدل أن تلحق بحساب تحويل للمخصصات تابع لوزارة المالية؛ علما بأن الاستقلالية لا تمنع هذا القطاع من ممارسة الرقابة المالية على ميزانية الهيئة.

 

وحرصا على الشفافية التامة لسيرها، يمكن أن تخضع محاسبة المؤسسة وطريقة تسييرها للتدقيق من قبل مكتب دولي لخبراء مستقلين يصدرون تقريرا سنويا بهذا الصدد.

 

عائدات مفيدة لم تكن في الحسبان

بغض النظر عن المسار المتعثّر والمضطرب لتنصيب هذه المؤسسة، لا مناص من العودة إلى المسألة الجوهرية بطرح السؤال التالي: هل بمقدور إدارة الزكاة أن تحسّن بشكل ملموس مستوى معيشة السكان المعوزين؟ والجواب على هذا السؤال هو نعم، وألف نعم، باعتبار أهميتها القصوى بالنسبة للبلد. وأكثر من ذلك، سيتيح هذا المورد المالي الذي لم يكن في الحسبان للدولة أن تقضي، دون بذل أوقية واحدة، على التفاوت الطبقي المهدد للنسيج الاجتماعي.

 

لذا على المناهضين لإقامة الزكاة أن يفكّروا في انعكاساتها المفيدة للبلد. فمن بين الفوائد التي ستجنيها البلاد من تحصيل الزكاة:

  • توفر الآلاف من مصارف الزكاة (أي المستحقّين لها) على دخل شهري ثابت من شأنه أن يسدّ خَلّتهم، ويُقدر ألا يقل هذا الدخل عن 40.000 أو 50.000 أوقية قديمة لكل رب أسرة؛
  • بإمكان إدارة الزكاة أن تنشئ، على الطريقة الإسلامية، بنكا سيكون بلا منازع أكبر بنود البلد، لتمويل السكن الاجتماعي، والمشاريع الصغيرة، والمراكز الصحية مثل مستوصفات الأحياء، والمنح الدراسية لأولاد الفقراء، وإعانات للمرضى وأصحاب العاهات، إلخ...؛
  • باستطاعة إدارة الزكاة أن تخفف إلى حد كبير الأعباء عن الدولة بتمويل عدد من المنشآت ذات الطابع الاجتماعي: المدارس، الجامعات، المستشفيات، الطرق، إلخ ...؛
  • كما يمكنها أن تعمّم "دكاكين أمل" على جميع المدن والقرى والحواضر، والشراء والتوزيع المجاني للأعلاف على مواشي المعوزين، دون إغفال إمدادات الماء والكهرباء للمناطق المعزولة، إلخ ...؛
  • ستضع المداخيل الهائلة المتأتّية من تحصيل الزكاة البلادَ في مأمن من الضائقات المالية المزمنة التي طالما أرغمتها على الرضوخ للتقويم الهيكلي بإملاء من صندوق النقد الدولي؛
  • فبالزكاة سنقلب ظهر المِجَنّ لمُسلّمات وصور نمطية كنا أسْرى لها. وسنجد في الزكاة ردًّا مفحما على أيديولوجية الحركات المتطرفة المحرّفة للإسلام دين السلام والتسامح والتضامن والوئام.

 

يا تُرى هل هذه المشاريع مجرد أوهام وخيالات أم يمكن إيجاد الوسائل المالية الكفيلة بتحقيقها؟ بتحصيل الزكاة ستتدفق الأموال حقيقة لا مجازا، وستتراكم مبالغ هائلة لم تكن في الحسبان. مئات المليارات من الأوقية. إنه مورد ضخم يشكل عمادا لتنمية البلاد.

 

يرى بعض الخبراء أن مداخيل الزكاة ستفوق جميع إيرادات الدولة مجتمعة من الغاز، الحديد، والذهب، والصيد، والزراعة، إلخ. فحتى لو لم تصل نسبة التحصيل سوى 60 أو 70% فإن هؤلاء الخبراء (الاقتصاديين والماليين) يرون أن مبلغ الزكوات المحصّلة سيناهز أو يتجاوز الميزانية السنوية للدولة. 

 

القضاء على مخاطر اختلاس المال العام

على الصعيد الإجرائي، علينا أن ننتهج خطوات تدريجية. فنبدأ بتحصيل الزكاة في مرحلة أولى على مستوى مدينة نواكشوط، ونعمّمها في وقت لاحق على نواذيبو، ثم على بقية عواصم الولايات، وضواحي المدن الكبرى، وفي الأخير على الوسط الريفي.

 

ولتحقيق ذلك، ما علينا إلا أن نرسي دعائم الهيئة المعنية، مع شرط لا غنى عنه ألا وهو: إشراك رئيس الجمهورية ليشرف شخصيا على حسن سير المراحل الأساسية في العملية وليكون حضوره رادعا لأكلة المال العام الذين يتربصون الدوائر للانقضاض على محاصيل الزكاة.

 

ذلك أن رئيس الجمهورية هو وحده القادر على كبح جماح المفسدين الذين لا حد لجشعهم ونهمهم. فالمتملقون والانتهازيون لن يألوا جهدا في سبيل الاستحواذ على هذه الأموال المخصصة للمحتاجين ويحوّلوها إلى جيوب حفنة من المرتشين. وسيعتمدون في ذلك على طرق وتقنيات عتيدة أهمها التحايل على الصفقات.

 

في هذا المناخ الموبوء، تسود المصالح الأنانية والمحسوبية والزبونية التي ستكون، ما لم تتخذ الاحتياطات اللازمة، أهم المعايير لإبرام الصفقات. وهذا ما يستدعي وضع ضوابط وزواجر صارمة تردع مصاصي الدماء عن أن يرتعوا في ريْع الزكاة ...

 

ملحوظة: للمزيد من المعلومات حول الزكاة، يمكن الرجوع إلى كتاباتي ومقالاتي في صحيفة القلم.