على مدار الساعة

التبليغ عن الفساد ليس جريمة!

24 ديسمبر, 2025 - 17:14
الأستاذ محمد الأمين ولد الفاظل

لم يعد الفساد في عالم اليوم ينظر إليه بوصفه مجرد انحرافات في التسيير، أو أخطاء فردية يمكن احتواؤها بإجراءات شكلية، بل بات - كما أكد فخامة رئيس الجمهورية - تهديدا استراتيجيا للدولة الحديثة، يقوِّض الثقة، ويهدر الموارد، ويعطِّل مسارات التنمية، ويضرب أسس العدالة وتكافؤ الفرص.

 

ومن هذا الإدراك العميق، جاءت التزامات فخامة الرئيس المتكررة، الصريحة والحازمة، بجعل محاربة الفساد معركة وطنية شاملة، لا هوادة فيها ولا استثناء.

 

فمنذ رسالة إعلان ترشحه لمأمورية ثانية، تعهَّد الرئيس بأن "يضرب بيد من حديد، ويواجه بكل قوة وصرامة كافة مسلكيات وممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام". ثم أكد، في افتتاح حملته الانتخابية، أن "لا مكان بيننا لمن يُصِرُّ على مدِّ يده للمال العام، كائنا من كان". ولم يقتصر هذا الخطاب على الوعود الانتخابية، بل كانت الالتزامات أقوى والعزيمة أوضح في خطاب التنصيب، حيث أكد أن الحرب على الفساد حرب الجميع: "حرب المؤسسات الإدارية والقضائية، وأجهزة الرقابة، ولكن أيضا حرب النخب من مثقفين، وقادة رأي، ومجتمع مدني، وصحافة، ومؤثرين اجتماعيين، وأن النصر فيها مستحيل دون تضافر جهود الجميع".

 

وتكرر هذا المعنى لاحقا، وبوضوح أكبر، حين أكد الرئيس في مدينة جكني أن الدولة تتحمَّل مسؤوليتها الأساسية في مكافحة الفساد المالي والإداري، لكن بقية أشكال الفساد تقع مسؤولية محاربتها على عاتق النخب، وأن أي إصلاح لا يمكن أن ينجح دون القضاء على كل أشكال الفساد، إداريا وماليا، وذهب أبعد من ذلك في خطاب الذكرى الخامسة والستين للاستقلال الوطني، بخصوص مشاركة المجتمع والنخب، حين قال: "لن نكسب حربنا على الفساد إلا إذا جعلناها حربا مجتمعية بقدر ما هي حرب مؤسسية. فلنكن، جميعا، يدا واحدة عليه".

 

إن هذه الخطابات القوية والحازمة والمتقاربة زمنيا لفخامة رئيس الجمهورية لم تكن مجرد شعارات، بل تُرجمت إلى نصوص قانونية واضحة، فقانون مكافحة الفساد منح المبلغين والشهود والخبراء حماية خاصة، وجرَّم كل أشكال الانتقام أو الترهيب أو التهديد ضدهم. كما نصَّ، قبل ذلك، القانون التوجيهي لمحاربة الفساد على ضرورة تمكين المجتمع المدني وتعزيز قدراته للقيام بدوره في يقظة المواطن والكشف عن ممارسات الفساد، أيا كان مصدرها. ثم إن القانون المتعلق بالسلطة الوطنية لمكافحة الفساد - وهي السلطة التي وعد بها فخامة الرئيس في برنامجه الانتخابي - منح هذه السلطة حق استقبال الإبلاغات عن الفساد وحماية المبلِّغين عنه.

 

لا خلاف على وجود إرادة سياسية لدى فخامة رئيس الجمهورية لمحاربة الفساد، وهي إرادة عبَّرت عنها خطابات عديدة في مناسبات مختلفة، كما عبَّرت عنها نصوص قانونية استُحدثت وأخرى عُدِّلت، وعبَّرت عنها كذلك مؤسسات لمحاربة الفساد وُسعت صلاحياتها، أو رُفعت مكانتها البروتوكولية، أو استُحدثت لأول مرة، كما هو الحال بالنسبة للسلطة الوطنية لمكافحة الفساد. ولكن الإشكال الحقيقي والخطير لا يكمن في الخطابات القوية، ولا في النصوص القانونية المصاغة على أفضل المقاسات الدولية، ولا حتى في الرفع من مكانة الأجهزة الرقابية أو استحداث سلطة وطنية لمكافحة الفساد.

 

إن الإشكال الحقيقي يكمن في الممارسة، فحين تصطدم كل هذه الالتزامات المعلنة بتصرفات عملية تناقضها، فإن الرسالة التي تصل إلى المجتمع تكون رسالة مربكة، بل ومحبطِة.

 

ومن أخطر الممارسات المربكة لكل ما قيم به حتى الآن، الطريقة التي تم بها التعامل مع رئيس منظمة الشفافية الشاملة، السيد محمد غدَّه، الذي تم توقيفه في وقت متأخر من ليلة الأحد الماضية، بأسلوب أقلَّ ما يمكن أن يُقال عنه إنه غير لائق. وبعد الإفراج عنه، أُحيل من جديد إلى السجن بناءً على استئناف النيابة العامة.

 

وقبل ذلك بفترة، قضى رئيس منظمة الشفافية الشاملة أربعة أشهر في السجن بسبب فتح ملف فساد آخر، ليبرِّئه القضاء لاحقا من تهم الافتراء والقذف والإبلاغ الكاذب، التي سُجن أربعة أشهر بسببها، وربما تتكرر مستقبلا تبرئته من التهم الموجهة إليه حاليا، ولكن بعد أن يكون قد قضى فترة أخرى في السجن بغير وجه حق.

 

واللافت في الأمر أن الإسراع في سجن ولد غده، والتعامل الخشن معه عند توقيفه، واقتياده من منزله في وقت متأخر من الليل، وإزعاج أفراد أسرته، كل ذلك يقابله تباطؤ وتراخ وحسن تعامل مع مشبوهين ومتهمين في ملفات فساد.

 

فهل يُراد من هذا التعامل المتناقض بين من يُبلِّغ عن الفساد ومن يُتَّهم به، توجيه رسالة غير مشفّرة، بل صريحة وفصيحة، إلى كل من يفكر مستقبلا في التبليغ عن الفساد، مفادها أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر؟ وهل يُراد من هذا التعامل مع رئيس المنظمة الوحيدة التي تعمل ميدانيا في مجال رصد وكشف الفساد توجيه رسائل أكثر صراحة وفصاحة إلى منظمات المجتمع المدني، مفادها أن المجتمع المدني غير مرحب به في مجال كشف ورصد الفساد؟

 

هذا ما تقوله رسائل توقيف ولد غده، وهي رسائل تصيب في مقتل ما جاء في المادتين (6) و(7) من القانون التوجيهي لمحاربة الفساد رقم: 040 - 2016، اللتين تنصان صراحة على تعزيز القدرات الفنية والمؤسسية والتنظيمية للمجتمع المدني، وتمكينه من أداء دوره في يقظة المواطن والكشف عن ممارسات الفساد، مهما كان مصدرها.

 

فهل يُراد، من خلال التعامل الفظ مع محمد ولد غده، ألا تستجيب النخب ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بمحاربة الفساد لنداءات فخامة رئيس الجمهورية المتكررة، التي دعا فيها النخب ومنظمات المجتمع المدني إلى الانخراط في الحرب على الفساد؟

 

إن طرح هذه الأسئلة أمرٌ في غاية الوجاهة لمن قرأ، بشكل متأنٍ، سلوك وتصرفات جهات ومؤسسات في سلطتنا القضائية، كان يُفترض فيها أن تكون في طليعة من يدعم ويحمي المبلغين عن الفساد.

 

فمن الطبيعي جدًا أن تحاول شخصيات سياسية أو إدارية نافذة إرباك أي جهد يُبذل في مجال محاربة الفساد، وتحركات هؤلاء يمكن للمجتمع المدني أن يتصدى لها، لكن التصدي يصبح أصعب عندما يتولد شعور بأن هناك جهات في القضاء لا تتحمس للأدوار التي يقوم بها المجتمع المدني في مجال محاربة الفساد.

 

ومن المؤكد أن هذا التعامل غير المناسب مع محمد غده سيؤثر سلبا على الرأي العام وعلى المجتمع بأكمله؛ فالمجتمع - ولا يجوز الاستهانة بذكائه الجمعي - يقرأ الوقائع لا النيات، ويقارن بذكائه الجمعي بين الخطاب والممارسة، وإذا ما ظهر له أن الممارسة لا تتناغم مع الخطاب، خلص - بشكل تلقائي - إلى استنتاج خطير مفاده أن محاربة الفساد ليست بالجدية المعلنة.

 

إن التعامل بهذا الأسلوب الفظ مع رئيس منظمة الشفافية الشاملة ستكون له انعكاسات سلبية على قناعة المجتمع والنخب بجدية الحرب على الفساد فهذا الشخص الذي يكرس وقته وجهده وماله لكشف ورصد الفساد والتبليغ عنه، يستحق معاملة تختلف تماما عن المعاملة التي تلقَّاها خلال الأيام والأشهر الماضية.

 

لستُ هنا لأقول إن رئيس منظمة الشفافية الشاملة معصوم من الأخطاء، ولا لأقول إنه لم يخطئ في تعامله مع هذا الملف أو ذاك، لكنه، في كل الأحوال، يستحق أن يُتعامل معه بشكل لائق إن أخطأ، مثلما يُتعامل مع أي مواطن آخر أخطأ، هذا إن كان قد أخطأ أصلًا. أما إذا كان لم يخطئ، فهو في هذه الحالة يستحق التكريم والتوشيح على الجهود التي يقوم بها في مجال كشف ورصد الفساد.

 

إن التعامل مع رئيس منظمة الشفافية الشاملة بهذا الأسلوب غير اللائق يطرح إشكالا حقيقيا حول طبيعة الدور المنتظر من المجتمع المدني في مجال محاربة الفساد، وحدود مساحة التحرك التي يحق له أن يتحرك فيها، وطبيعة العلاقة التي يجب أن تربط بين القضاء والفاعلين المدنيين في معركة الفساد التي يُفترض أنها معركة مشتركة.

 

ومن هنا، تبدو الحاجة ملحَّة إلى فتح حوار صريح وجاد بين القضاء ومنظمات المجتمع المدني لتحديد الأدوار، ورسم حدود مساحة التحرك المسموح للمجتمع المدني أن يعمل داخلها.

 

إننا اليوم بحاجة إلى حوار صريح يجيب بوضوح على الأسئلة التالية: ما الذي يُطلب من المجتمع المدني في الحرب على الفساد؟ وما حدود مساحة التحرك المسموح بها؟ وكيف يمكنه أن يُبلِّغ عن الفساد دون أن يتحول هو نفسه إلى متهم؟

 

وفي هذا السياق، يمكن للسلطة الوطنية لمكافحة الفساد أن تلعب دورا محوريا في تنظيم هذا النقاش، نظرا لما أُنيط بها قانونا من مهام في مجال الوقاية من الفساد، والتنسيق بين المؤسسات ذات الصلة بمحاربته، ويمكن أن تقوم بذلك، حتى من قبل اكتمال هياكلها، لأن الاستعجال هنا مبرر، بل وضروري.

 

ختاما، يبقى التأكيد واجبا على قناعتي الشخصية الراسخة بصدق وجدية فخامة رئيس الجمهورية في محاربة الفساد. لكن هذه الحرب، بطبيعتها، تُزعج مصالح متشابكة، ليست سياسية فقط ولا إدارية فقط، والخشية كل الخشية أن تمتدَّ المقاومة لهذه الحرب، والتي تحدث عنها فخامة الرئيس في خطاب التنصيب، إلى داخل بعض الدوائر القضائية، وعندها سيصبح التبليغ عن الفساد جريمة يُعاقَب عليها، بدل أن يكون واجبا وطنيا يستحق من يقوم به أن يكافأ وتثمن جهوده.

 

ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة البسيطة التي يجب أن تظل واضحة، هي أن التبليغ عن الفساد متى كان بحسن نية، ووفق القانون، ليس جريمة تستوجب العقاب، بل هو حجر الزاوية في أي حرب جادة ضد الفساد.

 

حفظ الله موريتانيا..

 

الصورة لأعضاء من المكتب التنفيذي للائتلاف الوطني لمحاربة الفساد خلال زيارة تضامنية مع رئيس منظمة الشفافية السيد محمد غده