في السابع من ديسمبر 2025، أجهضت محاولة انقلابية في دولة بنين بسرعة مذهلة، ليكشف الحدث عن طبقات عميقة من الصراع الجيوستراتيجي الذي يعيد تشكيل غرب إفريقيا، وراء تفاصيل الاعتقالات والبيانات الرسمية، تكمن قصة أكبر: صراع بين دول تسعى لكسر قيودها الجغرافية عبر الإيديولوجيا، وأخرى تدفع للحفاظ على النظام القائم عبر تحالفات إقليمية ودولية.
فشل الانقلاب الذي دبرته مجموعة قليلة من أفراد الحرس الجمهوري، لم يكن مجرد انتصار للأمن البيني، بل كان محكاً لاختبار حدود القوة الناعمة للدول الحبيسة، وصلابة التحالفات التقليدية في مواجهة خطاب تحرري جديد.
الرهان على المشاعر وفشل الحسابات...
سلك المنقلبون طريقاً يبدو مألوفاً في سياق إقليمي مشحون: خطاب معاداة الاستعمار الفرنسي ووعد بتحرير البلاد من الهيمنة الفرنسية وتحسين الوضع الأمني في البلاد، في محاكاة واضحة للنموذج الذي نجح في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
لقد راهنوا على ورقتين: استغلال المشاعر الشعبية المتصاعدة ضد باريس، والتضامن الخفي مع حكومات الدول الحبيسة في الساحل التي تطمع في منفذ بحري، إلا أن هذا الرهان بني على سوء تقدير فادح، فالمشاعر المعادية لفرنسا في بنين، رغم وجودها، لم تكن بالدرجة الكافية لتقويض استقرار نظام يتمتع بشرعية دستورية، وتدعمه نخبة اقتصادية تفضل الاستمرارية.
كما أن المنقلبين قللوا من شأن آلة التنسيق الأمني الإقليمي، التي تحركت بسرعة قياسية تجسدت في الدعم الحاسم من نيجيريا، القوة الإقليمية الأولى، إلى جانب الدعم الاستخباري واللوجستي الفرنسي المباشر، ففرنسا لا تزال تحتفظ بقاعدة عسكرية في بنين (بعد طردها من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر)، مما وفر قدرة على الاستجابة السريعة وبعد خسارة مواقعها في دول الساحل، أصبحت بنين ذات أهمية مضاعفة لباريس كمنصة لعملياتها الإقليمية لاسيما بوجود القوات الفرنسية في كوتونو ما أعطى الحكومة البينية حصانة إضافية ضد الانقلاب.
تضامن خفي وحسابات جيو- اقتصادية...
يكشف التحليل المتعمق عن تضامن خفي، وإن كان غير معلن، من عواصم الساحل الحبيسة (باماكو، واغادوغو و نيامي) مع فكرة الانقلاب، فالدوافع هنا لم تكن إيديولوجية بحتة، بل جيو اقتصادية وجودية، هذه الدول، المحاصرة برياً، تعاني من تبعية استراتيجية مكلفة لمنافذ بحرية في دول قد لا تتناسب سياساتها مع توجهاتها الجديدة، مثل ساحل العاج أو غانا.
فدولة بنين تمثل، مع حدودها مع النيجر وميناء كوتونو الحيوي، "حلماً لوجستياً" لهذه الدول، نجاح انقلاب موالٍ كان سيفتح الباب أمام تحالف عسكري - عسكري يمنحها منفذاً مباشراً إلى المحيط الأطلسي، مع إمكانية تفاوض على شروط تفضيلية تخفض تكاليف نقل بضائعها، بل وقد يوفر ممراً أمنياً بديلاً يتفادى العقوبات وبعض المراقبات، وهذا ما يفسر نمط "الدبلوماسية المزدوجة" الذي ظهر: غياب إدانات رسمية، بينما كانت التغطية الإعلامية المحلية في تلك الدول تقدم المنقلبين كمحررين وطنيين وتضخم الخطاب المعادي لفرنسا.
استمرار المأزق وإعادة تشكيل التحالفات...
فشل المحاولة يعني إحباطاً لاستراتيجية الدول الحبيسة الرامية لكسر حصارها الجغرافي عبر تغيير الخريطة السياسية للساحل، وهي العودة إلى مربع التبعية اللوجستية، مع ما يحمله ذلك من تداعيات اقتصادية قد تزيد من عزلة هذه الأنظمة. في المقابل، يعزز الفشل التحالف الإقليمي الجديد الذي تقوده نيجيريا مع الدول الساحلية المستقرة مثل بنين وساحل العاج وغانا، كي يشكل سداً أمام انتشار موجة الانقلابات عن طريق قوة إقليمية تتمثل في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
كما أنه يؤكد التحول الاستراتيجي الفرنسي من الوجود العسكري المكثف في عمق الساحل، إلى تعزيز تحالفات أمنية مع الدول الساحلية التي ما زالت ترحب بوجودها، مثل بنين التي أصبحت الملاذ الأخير لباريس في هذا الجزء من غرب إفريقيا.
الجغرافيا تصنع التاريخ ولكن التحالفات تحدده...
تقدم المحاولة الانقلابية الفاشلة في بنين درساً بالغ الأهمية، رغم القوة الجاذبة للخطاب الشعبوي المعادي للاستعمار، فإن الجغرافيا الاقتصادية والتحالفات الإقليمية الفعالة لا تزالان عاملين حاسمين، الدول الحبيسة رغم خطابها السيادي، تبقى سجينة حاجتها للوصول إلى البحر، وهو تناقض وجودي يصعب حله، والفشل الانقلابي يظهر أن استراتيجية المواجهة المباشرة لخلق منفذ بحري موالٍ هي مخاطرة عالية التكلفة وغير مضمونة. المستقبل قد يدفع هذه الدول نحو إعادة تقييم استراتيجياتها، والبحث عن تفاهمات تعاونية، ولو كانت باردة، مع جيرانها الساحليين، بينما تعيد القوى الإقليمية والتقليدية ترتيب أوراقها لحماية مصالحها في سباق جيوستراتيجي طويل النفس على سواحل غرب إفريقيا.

.gif)
.gif)













.png)