على مدار الساعة

ماء الشعر وماء السياسة

16 فبراير, 2018 - 14:52
محمد عبد الله ولد لحبيب

"خليليّ هذا ربع عزة" لا أذكر متى عقلت أبياتا جميلة من قصيدة كُثَيِّر هذه، وكنت أعدها أجمل قصيدة في الشعر العربي. وبعض أبياتها من أغزل ما فاهَ به الشعراء على مر الأزمان، مثل بيتها السائر الذي وضع دستورا للاغتياب بين المحبين؛ فأباح عرض المحبوب للمحبوبة، ودعا لها بأكله هنيئا مريئا.

 

في هذه القصيدة شيء من ماء الشعر، هذا المصطلح الغائم الذي فتَقَه الجاحظ، ولم يُبَيِّنْه، وتبعه ابنُ جني دون بيان أيضا، يشبه في نفسي طلاوة يجدها المُلْتَذُّ بمنطق لا يعرف ما يستثيره فيه، على وجه الدقة.

 

يعرف متذوِّقُو بلاغة الكلام طعم ماء الشعر، كما يعرف الشاربون العُطَّش طعم الماء، وهو من أسرار بديع صنع الله في مخلوقاته. يتجاوز طعم الماء حاسة الذوق التي يترجمها الدماغ إلى ما نصطلح عليه لغويا بالحلاوة والمرارة، فلا يمكن أن يقول لنا اللغويون أي نوع من الطعم ذلك الذي نجده عند تذوق الماء، رغم أن الدماغ يترجمه إلى حالة التذاذ تضيق عنها الكلمات. هذا يكفي من طعم الماء.

 

غزلُ كُثَيِّر (وهو تصغير كَثِيرٍ) من اللون المعروف في الشعر العربي بالغزل العذري، أي المنسوب إلى قبيلة عُذْرَةَ، وعذرة قبيلة من قبائل حِمْيَر (بكسرٍ فسكونٍ ففتحٍ، وقد كثرت الحمير في المنكب البرزخي، قبل الفتح الصيني العظيم، فنخاف أن تختلط على الناس، لذلك نضبطها). كان الهوى يقتل عذرة لرقة طباعهم، وعفة نسائهم، ورجالهم. عذرة لا يصلحون أبطالا لنوع الروايات التي تحصد الجوائز في أرض حمير هذه الأيام.

 

يغضب بعض قراء الرواية حين لا يجدون أبطالها في الفُرُشِ، فيسبون عِترة المؤلف، وربما همَّ بعضهم بتنفيذ عملية انتحارية في الدار التي تنشر هذا الأدب "البارد". تأخذ اللغة معاني جديدة في النمط الذي يبحث عنه قوم لم يُبْتَلَوْا بولوج عصر اليوتيوب، وقنوات أم بي سي 2 وآكشن، 4.. ودراما، وتلك القائمة التي يتمول بعضها من مال الحجيج، ويعتمر مديروها سنويا، ويحجون في ضيافة الإنافة الشريفة لخادم الحرمين.

 

كُثير خزاعي وليس عذريا، وفي نسب خزاعة خلاف. وكنت أتساءل لمَ سمَّوْهُ كثيرا ثم صغروه؟ قد يكون  لأنهم تفاءلوا له، فلما لم يتجاوز نموه ثلاثة أشبار، عدَلوا إلى تصغير اسمه، ولم يسموه "قليلا" وهي ضد الكثير، لأنه لم يكن قليلا في سنن القول. كان مقدما على كثير (بالتكبير) من الشعراء الإسلاميين، (ويمكن لممتهني التفكيك أن يستبدلوا إسلاميين بتواصليين) وهو محب محروم، عاش على حلم لم يتحقق. كان شيعيا متعصبا لآل البيت، ويمدح بني أمية. الأفضل له أن يعيش في زماننا.

 

قصيدة كُثير نمط من الشعر فريد عظيم، فيه ماء وطلاوة، يجذب روح السامع والقارئ، دون أن يخدش حياء من بقي له من حيائه شيء. إنه ليس شعرا يابسا. كم شعرا نقرؤ له صورةُ الشعر، وطنين ألفاظه، وجزالة بعضها، وله معان فلسفية عميقة في ذاتها، لكن لا ماء فيه.!!

 

يابس يبوس السياسة في بلد المليون شاعر، وسياسي. السياسة اليابسة لا تشبه في هذا الموضع الدعوة اليابسة في مصطلح الشيخ محمد ولد سيدي يحيى حفظه الله، كان الشيخ يطلق الدعوة اليابسة على دروسه التي لا تجلب مالا دنيويا، كان يذكرها دائما في مقابل دعوة "علماء بنافه" لأن دعوتهم مبلولة، ولحاهم مدهونة بمرق السلطان، تأتي عليها أيام وهي تقطر سمنا، وتأتي أيام وهي غير شَعِثَة فقط.

 

السياسة اليابسة، بمصطلح الشيخ غير موجودة، في الأغلبية، وقليلة في المعارضة، لأن السياسة ذات مرق كثير خاصة في أفق 2019، وكلٌّ وحظُّه من المرق. السياسة اليابسة هي التي لا يجد المتذوق فيها ماء. لا جاذبية فيها، وليس فيها مغناطيس للجمهور، خطابها بلا طلاوة، وشعرها بلا صور. لا موقع فيها لمجرد التحليل اليابس، لأنها بلا منطق أيضا.

 

تلك هي السياسة التي تمارس اليوم في المنكب البرزخي، وفي زاوية الأغلبية. لا تجد لها مذاقا، ليس لأن اللغة تعجز عن ترجمة طعمها، بل لأنها تأنف من ذلك. صراعاتها صغيرة، لأنها على ما تبقى من قلب شخص واحد، في أفق عام. البقية ليست من قلب عزة، ولكن المتصارعين، ينتظرون حكم رئيس لجنة الإصلاح، وهو نفس حكم سحابة كُثيرٍ.

 

كأنّي وإيّاها سحابةُ ممحلٍ *** رَجَاها فَلَمّا جَاوَزَتْهُ استَهَلَّتِ

 

صراعهم لا يَلِدُ شعرا ذا ماء.. هو سياسة يابسة، وستَخَطَّاهُ السحابةُ، وتمطر قيعانا لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.

 

عمود "قليل من كثير" للكاتب في صحيفة الأخبار إنفو الأسبوعية