على مدار الساعة

هجرة الموتى

27 يناير, 2018 - 16:01
عنفار ولد سيدي - صحافي موريتاني مقيم في الولايات المتحدة

أشرقت شمس مدينة أطار بإذن ربها، لكنها أشرقت حزينة وبائسة تماما مثل بؤس أول فجر يطل علي في تلك المدينة بعد ثلاثة أعوام من الغياب. أطل فجرٌ مخنوق النسمات، خافت الأضواء. كأنه صارع ليل المدينة النابغي طويلا قبل أن يطل على أطار متقطع الأنفاس.

 

ليست في أطار منتزهات يمكن للزائر أن يداري طول الساعات فيها. هنالك شيئان لا ثالث لهما يواظب الناس على التوجه إليهما. السد المحيط بالمدينة حيث بعض المناظر الخضراء القليلة، أما الجهة الثانية فهي المقبرة. وبما أن اليوم كان جمعة فقد توجهت إلى المقبرة، ذلك المرقد الأبدي الذي اختارته الأقدار لوالدي وعدد غير قليل من أهلي وأبناء مدينتي.

 

في الطريق إلى "أولاد ميجَ" تتناثر الكثير من ذكريات الطفولة الشقية. فبمجرد عبوري للسد نحو المقبرة، تعبر بي الذاكرة إلى الأيام العبثية التي قضيت هناك. في المقبرة التي أتوجه إليها يدفن الناس موتاهم، إنها المقبرة الصغيرة في المنطقة، أما المقبرة الكبيرة فهي المدينة نفسها. ففي المدينة يدفن الناسُ أحلامَهم. في أطار تُوأد التطلعات والصباحات الشبابية المضيئة. تدفن الكثير من التلاميع ويصبح لحفار قبور الأحلام ذكرٌ ذائع في مجالس القوم.

 

عندما وصلت المقبرة الصغيرة المعروفة بـ"أولاد ميج" سمعت صوتا خافتا يناديني: تعال هنا أيها المهاجر. التفتُ إلى مصدر الصوت، فلم يكن هناك شخص بجانبي. مجرد مجموعة قبور. إلا أن الصوت كان متواصلا: اقترب أيها المهاجر كي أقول لك شيئا. في تلك اللحظة لم يعد يراودني شك بأن القبر الذي بجانبي يأتي منه الصوت. لقد دفنني أهلي هنا بعد أن دفنت أحلامي في المدينة، والآن لدي حلم واحد هو أن أبعث في مكان غير هذه المدينة وغير هذا البلد، فالهجرة خيار لا محيد عنه حتى بالنسبة لنا نحن الأموات. تلك كلمات صاحب القبر.

 

تحفل الذاكرة الشعبية الموريتانية بكثير من قصص الخيال عن أصحاب القبور و"معجزاتهم" لدرجة يجعلها مؤهلة لتصديق هذه القصة المتخيلة مع صاحب القبر. فالأموات في بلدنا صوتوا على تغيير الدستور، فطالما أنهم صوتوا فلن يكون من المستبعد أن تتخيلهم الذاكرة الشعبية ذات الباع الطويل في تصديق الأحاجي والخرافات وهم يهاجرون من قبورهم ليبعثوا في بلدان أخرى.

 

في بلدي كل شيء يحدثك عن الشغف بالهجرة. الأكثبة الرملية في هجرة يومية لا تعرف التوقف. الناس في هجرة دائمة سواء من البدو إلى الحضر أو داخل المجال القروي حيث يرحلون ثم يعودون إلى نقطة البداية ليرحلوا منها مجددا. مجتمع أبناء الرحل يبدو أنه جُبِلَ على الهجرة، فالكل يريد أن يهاجر من موريتانيا إلى فضاءات يتخيلها جميلة في الخارج حيث يعتقد أنه سيصبح ثريا منذ أول لحظة تطأ فيها قدماه مطار دولة أوروبية أو خليجية. المجتمع كله أيضا يصدق هذه الخرافة، فمن هاجر بالنسبة لهم أصبح غنيا بالضرورة، وتلك قناعة راسخة لا يمكن أن تتزحزح من أدمغة الموريتانيين إلا إذا هاجر الموتى أنفسهم.