على مدار الساعة

أوراق الربيع (25) الأزمة الخليجية والطير الإسلامي الجريح

8 نوفمبر, 2017 - 16:51
محمد مختار الشنقيطي - أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان

ربما يكون عالم الجغرافيا السياسية المصري الراحل جمال حمدان، والمفكر السياسي التركي أحمد داود أوغلو، هما الوحيدين - من بين المفكرين المسلمين المعاصرين - اللذين قدما رؤية متماسكة للجغرافيا السياسية الإسلامية. ففي كتابه (العالم الإسلامي المعاصر) وجد جمال حمدان أن العالم الإسلامي في تشكله الجغرافي هلالٌ "يتألف من قلب وجناحين" (الخريطة 1)، وأن هذا الهلال / الطير موزَّع ما بين جنوب آسيا وشمال أفريقيا. فــ"دار الإسلام في أفريقيا تتركز في الدرجة الأولى في نصفها الشمالي، بينما تقع في آسيا في نصفها الجنوبي".

  

 

أما قلب الإسلامي - كما يقول حمدان - فهو العالم العربي، لأنه "مهدُ العقيدة وموطن الأماكن المقدسة" وهو "النواة النووية للإسلام" و"القطب المغناطيسي للمؤمنين" وهو "ينبوع الإسلام ونافورته تاريخيا وجغرافيا". وأما الجناحان فهما يمتدان شرقا في جنوب آسيا، وغربا في شمال أفريقيا. لكن التأمل في الجغرافيا السياسية التي تصورها جمال حمدان يجد شيئا من التفاصيل الضائعة، أهمها أن حمدان جعل العالم العربي هو القلب، لكنه ترك الطير الإسلامي العملاق من غير رأس، رغم أن الخريطة تضع تركيا في موقع الرأس من هيكل هذا الطير ذي القلب والجناحين.

 

ويرجع هذا الحذف المثير إلى تحيزات جمال حمدان القومية العميقة ضد الأتراك. وهي تحيزات نجدها أكثر صراحة ووضوحا في حديثه عن تاريخ الدولة العثمانية في كتابه (إستراتيجية الاستعمار والتحرير)، حيث جعل حمدان الدولة الإسلامية حين حكمها العرب "إمبراطورية تحريرية" بينما جعل الحكم التركي للعالم الإسلامي نوعا من "الاستعمار الديني" حيث "جاء الأتراك في مسوح الدين الإسلامي وتحت قناعه!" كما يدَّعي حمدان، الذي يزعم أيضا أن "الاستعمار التركي" للعرب كان "استعمارا عقيما في نتائجه وإنجازاته".

 

ولو أنصف حمدان لوجد أن العرب كانوا سيف الإسلام في مرحلة الاندفاع، وأن الترك كانوا درع الإسلام في مرحلة الدفاع، وأن كلا الشعبين - وغيرهما من الأقوام المسلمة - كان له إسهامه في الحضارة الإسلامية. ويكفي أن يتأمل المنصف ما كتبه ابن خلدون في تاريخه عن دور الأتراك في حماية حدود الحضارة الإسلامية وتجديد نضارتها، بعد أن وهَن سلطان العرب، لإدراك هذه الحقيقة. أما إسقاط مقولات الاستعمار والتحرير المعاصرة على امبراطورية إسلامية قديمة تجمع مختلف الأقوام فهو إسقاط غير موفق، ما كان ليقع فيه مفكر عبقري بمستوى جمال حمدان لولا الهوى القومي، الذي أعمى كثيرا من العرب والأتراك المعاصرين عن رؤية ما يجمع بينهم من أرحام دينية وتاريخية.

 

ويبقى الاعتراف بالفضل لحمدان في إضفاء المعنى على جغرافية العالم الإسلامي من خلال نظرية القلب والجناحين. لكن يمكن القول بتفصيل أدق وإنصاف أكثر - إن جغرافية العالم الإسلامي السياسية تتألف من جسد عملاق في شكل طير (خريطة 2)، ويتألف هذا الجسد العملاق من رأسٍ هو تركيا وقلبٍ هو الجزيرة العربية والشام والعراق وجناحٍ شرقي يبدأ من إيران مشرِّقاً وجناحٍ غربي يبدأ من مصر مغرِّباً (الخريطة 3).

 

وهنا نترك جمال حمدان، وننتقل إلى أحمد داود أوغلو الذي كان أقل تحيزا من جمال حمدان، وأعمقَ إدراكا للماضي المشترك والمصير المشترك الذي يجمع شعوب المنطقة، فنصح العرب والأتراك بأمور ثلاثة هي: "البدء بتجاوز التراكمات السيكولوجية المتبادلة، وترسيخ الوعي بمصير إقليمي مشترك، والحفاظ على العلاقات البينية من مؤثرات التوازنات العالمية" (أحمد داود أوغلو، العمق الإستراتيجي). وهذه نصيحة ثمينة، خصوصا وأن ما يجمع العرب والترك والفرس والكورد وغيرهم من أقوام المنطقة أكثر مما يجمع الألمان والفرنسيين والإيطاليين والأسبان وغيرهم من الأقوام الأوربية، التي كادت تبيد بعضها البعض في الحرب العالمية الثانية، وهي اليوم تستظل بمظلة الاتحاد الأوربي في سلام وازدهار.

 

وقد حاول داود أوغلو إضفاء معاني تحليلية على جغرافية منطقة الشرق الأوسط السياسية، بالمعنى الواسع للشرق الأوسط الذي يشمل تركيا ومصر والشام والعراق والجزيرة العربية وإيران. وهي المنطقة التي تشكِّل مركز ثقل الطير الإسلامي العملاق. ففي كتابه الأشهر (العمق الاستراتيجي) ذهب داود أوغلو إلى أن منطقة الشرق الأوسط تتألف من مثلثات ثلاثة: أكبرَ وأوسطَ وأصغرَ. أما المثلث الأكبر فهو تركيا ومصر وإيران، وفي داخله يقع مثلث أوسط هو السعودية والعراق وسوريا، وفي داخل المثلث الأوسط مثلث أصغر هو الأردن ولبنان وفلسطين.

 

وأهم المثلثات الثلاثة إستراتيجياًّ من منظور داود أوغلو هو المثلث الأكبر. لذلك فهو يرى أن إستراتيجية التحكم الدولي بالمنطقة والتلاعب بمصائرها تتأسس على مبدأ انتهازي تفريقي، سماه مبدأ "الضلع المفقود". فلا تسمح القوى الدولية الطامعة لدول المثلث الأكبر (مصر وتركيا وإيران) بالتوافق على منظور إستراتيجي واحد أبدا، منذ أن التقت تركيا وإيران الشاه ضد مصر في الستينات، إلى أن التقت تركيا ومصر ضد إيران في الثمانينات. كما يرى داود أوغلو أن قوة إسرائيل كامنة في قدرتها على التلاعب بالتناقضات داخل هذه المثلثات الثلاثة.

 

وبواقعية سياسية، ينصح داود أوغلو صناع القرار الأتراك - وهو في القلب منهم - على أن يتجنبوا الوقوع في شراك مواجهة الدولتين الأخريين في المثلث الأكبر (مصر وإيران) في وقت واحد، ويفسر ذلك بقوله: "ليس بمقدور دولة، مهما بلغت من قوة، أن تتحمل عبء العزلة داخل هذه التوازنات الثلاثية الحساسة للشرق الأوسط".

 

ونحن نرى أن التوزيع الثلاثي الذي تصوره داود أوغلو - على أهميته التحليلية - يحتاج تعديلا، ليعكس موازين الجغرافيا السياسية للمنطقة بشكل أدق. فمكان السعودية الطبيعي ليس المثلث الأوسط، لأن مكانتها المعنوية وثروتها ومساحتها تمنحها إمكانا إستراتيجيا لا يقل عن إمكان الدول الثلاث الكبرى في الإقليم (مصر وتركيا وإيران). لذلك نقترح الحديث عن مربع كبير داخله مثلث، لا عن مثلثات ثلاثة كما فعل داود أوغلو. فالمربع الكبير هو (مصر والسعودية وتركيا وإيران) وداخله مثلث (العراق وسوريا والأردن). أما لبنان فهو امتداد إستراتيجي لسوريا، وأما فلسطين فهي خارج المعادلة اليوم - للأسف الشديد - بسبب احتلالها.

 

ولو أن دول المربع الكبير (مصر والسعودية وتركيا وإيران) توافقت على منظور إستراتيجي مشترك لكانت ثمرة ذلك كتلة كبرى في قلب الطير الإسلامي، بإمكانات بشرية ومالية ورمزية هائلة، ثم لاندمجت دول أخرى عديدة ضمن هذه الكتلة، خصوصا الدول الواقعة في أحشاء هذا المربع (العراق وسوريا والأردن) وعلى أطرافه (اليمن وعمان ودو ل الخليج الصغرى).

 

لكن ما حدث للأسف هو أن قلب العالم الإسلامي لا يزال ممزَّقا بالخلافات السياسية، والاصطفافات الطائفية، والحروب الأهلية. وإذا كان بعض الفقهاء الأقدمين قسّموا العالم إلى دار إسلام، ودار عهد، ودار حرب، فإن دار الإسلام تكاد اليوم تصبح مرادفة لدار الحرب، رغم أن "المفروض أن دار الإسلام هي دار السلام" كما لاحظ جمال حمدان بمرارة في أوراقه الخاصة:

 

ومن التقاطعات التي مزقت قلب العالم الإسلامي في العقود والأعوام الأخيرة: التقاطع السعودي -الإيراني، حيث سعت السعودية إلى وأد الثورة الإيرانية ومحاصرتها، ثم سعت إيران للتمدد في محيط السعودية ومحاصرتها إستراتيجيا، ولا تزال السعودية ترد على المحاصرة الإستراتيجية الإيرانية لها بأساليب عشوائية غير مجدية، وذات مردود عكسي غالبا. فقد استثمرت إيران في القوى الشعبية الشيعية في العالم العربي، بينما شنت السعودية حربا خرقاء على القوى الشعبية السنية في العالم العربي، ثم فرضت السعودية حصارا عدوانيا على أقرب الدول السنية إليها جغرافيا وديمغرافيا وهي قطر، فمزقت آخر خط دفاع إقليمي لديها، وهو مجلس التعاون الخليجي. وكانت النتيجة أن إيران كسبت المعركة الإقليمية ضد السعودية على كل الجبهات، لكن المنطقة كلها دفعت ثمن هذا التقاطع، خصوصا وأنه لبس لبوس الحرب الطائفية العابرة للحدود.

 

ومن التقاطعات التي تمزق قلب الطير الإسلامي أيضا التقاطع الإيراني التركي. حيث تصر إيران على التمدد غربا إلى الضفة الشرقية للبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، بينما تطمح تركيا إلى الوصول إلى الجزيرة العربية وموارد الطاقة فيها عبر سوريا ثم الأردن. وقد تقاطع المساران واصطدما على الأرض السورية صِداما دمويا لا يزال الشعب السوري يدفع ثمنه حتى اليوم. لكن التقاطع التركي الإيراني لم يتسم بصبغة طائفية، ولم يمنع من التعاون الاقتصادي الوثيق بين البلدين، أو من اتفاقهما في بعض الملفات الإقليمية الحساسة، مثل الملف الكردي. فالخلاف التركي - الإيراني ظل خلافا عقلانيا تحت السيطرة، على عكس الخلاف السعودي - الإيراني. وتتجه تركيا وإيران الآن إلى تجاوز خلافاتهما بعد الأزمة الخليجية. التي هي التقاطع الثالث والأخطر في اللحظة الحاضرة.

 

فقد شطرت الأزمة الخليجية قلب الطير الإسلامي العملاق شطرين (الخريطة 4): شطر شرقي يشمل رأس الطير (تركيا)، وجناحه الشرقي (إيران)، وجزءا من صدره (قطر والعراق وعمان). وشطر غربي يشمل الجناح الغربي من الطير (مصر)، وجزء من الصدر (السعودية والإمارات)، وعنصر دخيل على جسد الطير الإسلامي (إسرائيل). وقد تضمَّن كل من الشطرين اثنتين من دول المربَّع الكبير: تركيا وإيران في جانب، والسعودية ومصر في جانب.

 

وكان من نتائج الأزمة الخليجية أن تبدل المسار التركي إلى الجزيرة العربية. فبدلا من أن تصل تركيا إلى الخليج عبر بلاد الشام (سوريا والأردن)، وهو  المسار المنسجم أكثر مع الخيال التاريخي التركي (سكة حديد الحجاز)، ستصل تركيا إلى الخليج الآن عبر إيران. وذلك مكسب كبير لإيران، وهو هدية ثمينة لها من السعودية، ضمن هدايا أخرى ثمينة حصلت عليها إيران، جرَّاء سوء التقدير والبلاهة السياسية في الإستراتيجية السعودية.

 

وبمقارنة هذين الشطرين نجد أن قوة المحور (السعودي – الإماراتي - المصري) هي تأييد القوى الدولية - الظاهر والمُضمر - لموقفه المُعيق لحركة الشعوب في سعيها إلى الديمقراطية، ومساعدة اللوبي الصهيوني له في أميركا سياسيا وإعلاميا. لكن هذا المحور يعاني من ضعف الشرعية السياسية الداخلية، لأن سياساته تعادي الإصلاح الديمقراطي، وتؤيد إسرائيل. كما يعاني أيضا من الارتجال السياسي والابتذال الإعلامي، كما ظهر واضحا في إدارته للحصار العدواني ضد قطر.

 

إضافة إلى أن مصر - وهي الدولة الكبرى في هذا المحور - ليست على ما يرام إستراتيجيا. ولعل أبلغ من عبَّر ذلك هو عاشق مصر الذي لا يجامل عشيقته: جمال حمدان. فقد كتب حمدان في أوراقه الخاصة منذ ربع قرن: "بقيام إسرائيل فقدت مصر ربع وزنها، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت بقية وزنها في كامب ديفيد". وأضاف حمدان: "مصر الآن خشبة محنَّطة، مومياء سياسية، كمومياواتها الفرعونية القديمة" وهي تتحول "إلى مقبرة بحجم الدولة." وفي كتابه (شخصية مصر) لم يجد حمدان أملا لمصر "إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة". فهذا المحور الذي يعتمد على مصر التي عطل الاستبداد إمكانها وأخرجها من المعادلة، وعلى السعودية التي تعتمد سياسة الارتجال وردود الأفعال، لن يحقق شيئا لنفسه أو للأمة في المدى المنظور.

 

أما المحور (التركي – الإيراني - القطري) فتكمُن قوَّته في المرونة والفاعلية السياسية التي يتسم بها، فتركيا أكثر فاعلية من مصر، وإيران أكثر فاعلية من السعودية، وقطر أكثر فاعلية من الإمارات. ومن نقاط قوة هذا المحور أن سياساته (على الأقل بالنسبة لتركيا وقطر) لديها مصداقية لدى الشعوب العربية والمسلمة، وخصوصا دعمه للقضية الفلسطينية. وأهم نقاط ضعف هذا المحور هي عدم وجود دولة عربية كبرى ضمن دوله، رغم أن كل المعارك تدور على أرض عربية، وكذلك الموقف المتضارب من بعض مظاهر الربيع العربي (سوريا، البحرين) داخل هذا المحور.

 

لكن الفاعلية تعوض عن الحجم الكبير، كما برهنت عليه في الأعوام الماضية حالة قطر ضمن المعسكر المناصر للشعوب، وحالة الإمارات ضمن معسكر الثورة المضادة. كما أن التوافق على موقف من حركة الشعوب داخل المحور (التركي – الإيراني - القطري) ممكن في المستقبل، فربما نرى في الشهور القادمة تفاهما إيرانيا – تركيا - قطريا على حل في سوريا، وتقاربا إيرانيا - قطريا من موضوع المعارضة البحرينية، خصوصا بعد موقف القيادة البحرينية العدواني تجاه قطر. فحالة السيولة الإستراتيجية السائدة في المنطقة، تجعل المواقف تتبدل في سرعة فائقة.

 

وخلاصة الأمر أن الأزمة الخليجية هي آخر الانشطارات في جسد الطير الإسلامي الجريح، وهي جرح جديد ينضاف إلى الجروح الكثيرة - الظاهرة والغائرة - في جسده العملاق. لكن هذه الأزمة قد تكون أيضا بداية تماسُكِ عناصر مهمة داخل جسد هذا الطير، وتعضيدٍ لمناعته الداخلية على المدى البعيد، تمهيدا لتحليق هذا الطير الـمَهيض الجناح الذي طال انتظار تحليقه. ولعل أهم ثمار الاصطفافات الإقليمية الجديدة داخل جسد الطير الإسلامي ثلاثة أمور: أنها حولت تركيا إلى جزء من المعادلة الإستراتيجية الخليجية، وأنها خفضت من النبرة الطائفية التي كانت سائدة في الأعوام الماضية، وأنها كشفت وجها مُعتماً للسلطة السعودية كان من العسير رؤيته بوضوح في الزمن الماضي.

 

نقلا عن مدونة الكاتب ضمن مدونات الجزيرة