هل مات القائد يحيى السنوار؟ فيزيائيا نعم، ولكن رمزيا وواقعيا يحيى السنوار لم يمت، بل ما يزال حيا يقود ويخوض ويحرض ويخطط في غزة وخارجها، لأن يحيى السنوار أصبح فكرة، والفكرة لا تموت، وإن صرخته العظيمة "خاوه" لما يزال دَوِيُّها يصُخُّ آذان الكون في أرجاء الدنيا، وما يزال رجع صدى فتكته في السابع من أكتوبر يهز أطراف الأرض.
في الواقع، لم يمت يحيى السنوار، ولا يمكن أن يموت، فالسنوار أصبح رمزا للتحرر وفك أغلال القيود عن أمتنا المكبلة بأوهام الضعف وأنظمة العمالة، لقد أصبح السنوار رمزا لا لغزة فقط بل للأمة كلها، فلا أحد اليوم في الأمة إلا وللسنوار عليه مِنَّةُ بما فعله وأصحابه من تضحية وفداء، مِنَّةٍ في تصحيح مفهوم مغلوط، أو تحريك عاطفة ميتة، أو بعث عزيمة ليٍّنة، أو فضح عمالةٍ خادعة، فقد كانت فتكة السنوار كاشفة رافعة خافضة.
لم يمت يحيى السنوار لأنه يعني - دون تجوز أو مبالغة - السابع من أكتوبر، بما تحمله هذه الكلمة من ثقل دلالي، أي مشروع التحرير الكبير، ولا يختلف اثنان أنه فتكة كبرى أدخلت الاحتلال في مرحلة عدِّ تنازلي لوجوده يطول أو يقصر لكنه لن يتوقف إلا برحيله، كما أقبلت بالمنطقة كلها على مرحلة لن تدبر حتى تقف على نهايتها المرسومة، نهايتها التي ستكون مشرِّفة للأمة، مخلدة لمن أطلقوا رصاصتها الأولى، وفي مقدمتهم الشهيد القائد يحيى السنوار.
لم يمت يحيى السنوار، وكيف يعتبر ميتا من تخوض كتائب القسام وفصائل المقاومة، وكتائب حزب الله وأحرار اليمن والعراق معركة التحرير الدامية بقوة فعله وسطوة روحه وعاطفته، وكيف يقال ميتٌ لمن يشغل تفكير قادة دول العالم منذ سنة كاملة وإلى مدى سنوات عديدة قادمة، كلهم مشغول بطبيعة رد الفعل على فَعْلتِه العظيمة، وكيف يموت من هو ساكن قلوب البشرية كلها في فجاج الأرض، إما قلب يحبه ويعتبره رمزا، وإما آخر يخافه ويراه شبح موت لا يزول.
لم يمت يحيى السنوار حتى أمات مسلمات سياسية كثيرة، في مقدمتها بقاء إسرائيل في الشرق الأوسط، وأمات أوهاما كثيرة في مقدمتها أن جيشها هو الجيش الذي لا يقهر، وأزال غشاوة عن كثيرين، ومن تلك الغشاوات أن طريق التحرير يمكن أن يمر عبر مؤتمرات السلام والغرف المكفية، إنه حي دائما لهذا، ولأمر آخر، هو أن الأمة التي أحياها استيقظت فعلا، صحيح أنها لم تنهض بعد من ضجعتها الكسولة، ولكنها استيقظت فعلا بفعل صيحاته العالية وفتكاته الفريدة.
فيزيائيا، يحيى السنوار رجل مات منذ عقود، ولكن الله بعثه ليبعث فينا الأمل قبل أن يرحل إلى إخوته الشهداء في أعالي الفراديس، نعم مات منذ عقود وبعث منذ عقود، فلم يكن سرطان الدماغ الذي أصابه في سجن العدو الذي يتمنى قتله إلا موتا، ولم تكن العملية الجراحية الناجحة التي أجراها له أعداؤه إلا بعثا معجزة، كان أبو إبراهيم يعرف أنه مبعوث من تلك الرقدة المُنْهٍيَة في مستشفى إسرائيلي لمهمة عظيمة، وكانت المهمة فعلا هي السابع من أكتوبر، وكانت فعلا عظيمة.
راقب يحي السنوار الحجر الذي رماه يوم السابع من أكتوبر في بركة العالم الراكد على الظلم والتحيز واحتقار الضعفاء، راقبه عاما كاملا يتدحرج أمام عينيه، حتي إذا تمادى فيضان الطوفان، وتحركت أقدار العدو السيئة لتزيح الألغام من حول الجولان تمهيدا لاجتياح لبنان من جهة أخرى، حينها اطمأن الرجل الذي يفكر بعقل استراتيجي مؤمن أن النهر استوى فيضانا، وأن البركة لن تعود هادئة حتى يذهب الزبد جفاء، وفي مقدمة الزبد مشروع إسرائيل، حينها نودي بالرحيل، هيا يا أبا إبراهيم لقد اشتاقتك الجنان.
لبى أبو إبراهيم النداء، ولم يلبِّه في موقف جبن ولا انكسار، بلى لباه كما يلبِّيه الكبار، حاملا بندقيته، لابسا بزة الحرب، ممسكا بالزناد، متقدما جنده، يدفع العدو الظالم بجبهته العزيزة، وكأن أبا تمام يعنيه بقوله:
"وما مات حتى مات مضربُ سيفه **** من الطعن واعتلَّت عليه القنا السمر"
نعم، يا أبا إبراهيم، - كما قال الصديق رضي الله عنها -: "أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها"، لقد مت ميتة تليق بك، ولن يكون موتك إلا زيادة حماس في رجال حماس، وقسما جديدا على المقاومة بين كتائب القسام، فهنيئا لك الشهادة.