على مدار الساعة

انطباعات من وحي اجتماع رئيس الجمهورية والحكومة مع أطر الترارزة ما أعجبني.. ومالم يعجبني

7 فبراير, 2023 - 17:45
د. محمد ولد أحظانا

جربت في عندياتي أن بين الكاتب الذي يتوخى المسؤولية والجدية، وبين مجتمعه عقد حساس قليل البنود:

 

البند الأول:

- يلتزم الطرف الأول الذي هو الكاتب بعدم الكذب على مجتمعه أو تضليله. ويقدم في هذا السياق رؤيته وتوجيهه حسب طاقته الفكرية والتعبيرية، خدمة للمجتمع بنزاهة وصدق مع ذاته دون تحيز أو إغراض (أداء رسالة إصلاح وتقويم أو إبداع)، وذلك أصالة عن نفسه، وتعبيرا عن روح المصلحة العامة والرشد الشامل للمجتمع.

- بعد تقديم الرسالة على الكاتب أن يترك للمجتمع خياراته في التحرك دون مضايقة.

- للكاتب(ة) الحق والحرية في أن يقوم بتشخيص حالة مجتمعه سلبا أو إيجابا بشكل شفاف وموضوعي، بعد كل تجربة إنجاز، مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، له أو عليه شخصيا: ( التحلي بالشجاعة الأدبية).

 

البند الثاني:

مقابل الخدمة المعنوية التي أداها الطرف الأول للطرف الثاني؛ يلتزم الطرف الثاني، الذي هو مجتمع الكاتب بتقديم ثلاثة أنواع من المكافأة:

- الخدمة المادية والمعنوية (الحماية الذاتية للكاتب).

- التفاعل البناء مع آرائه المقنعة من طرف رشداء النخبة الاجتماعية الواعية. واعتبارها خدمة ذات فائدة عمومية، دون إصدار أحكام مسبقة أو شعبوية تحريضية عليها.

- الاستجابة السلوكية والعملية للأفكار البناءة التي يقدمها الكاتب، دون محاسبته أو تأثيمه على الأخطاء المصاحبة لإنجازه المعنوي الحيوي.. مادام لدى النخبة الخيار في التبني أو الترك؛ ومادامت تلك الآراء لا تمس حقا عاما أو خاصا ذا صلة بكيان مجتمعها.

 

البند الثالث:

خلاصة العقد

-من حق الكاتب أن يفكر بحرية، و يوجه، ويراقب، ثم يقوّم -عبر رأيه، إعجابا أو عدم إعجاب- أداء نخبة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية..

- بالمقابل: من حق المجتمع أن يتصرف بما يراه مفيدا وجذابا ومقنعا له من أفكار الكاتب، ويترك ما لايراه كذلك دون تحامل أو تعصب.

 

في صلب تطبيق العقد المعنوي:

لقد حضرتُ تحت طائلة هذا العقد المعنوي الضمني لأكون من بين مستقبلي النخبة الموريتانية العليا ممثلة في فخامة رئيس الجمهورية والحكومة، مع أطر ولاية الترارزة، باعتباري منتميا لهذه الولاية، ضمن انتمائي الوطني الأوسع لموريتانيا؛

 

وطني الذي كتبت بإخلاص عن كل ربوة حالمة من رماله الحدباء، وكل شاهق من جباله الخصيبة والجرداء، وعن أمواج بحره الطامية، وسهوبه الفسيحة، وكتبت عن دوي الزمن في أرجاء صحرائه المترامية، وعن أنهاره الزاخرة، وسواقيه الدؤوبة، وعن كل شجرة قانتة، أوزرعة واعدة، أو نجمة يانعة.

 

وكتبت عن إنسانه: أسمر و أحمر، وأصفر، وأبيض، وطيفيا.. وكتبت بعد ذلك عن كل نغمة موسيقية ابتدعها ذلك الإنسان أين كانت، وعن كل كلمة مجنحة أنطقها، وكل فكرة تصورها وأدركتها، وكل حلم حلمه، وكل ظل مده، وكل قيمة إنسانية نشرها.

 

وكتبت دائما وأنا مصاب بعمى الجهات والقوميات واللغات لما حباني ربي بأن لم يركب في نفسي جهاز تحديد الجهات والفوارق، كلما تعلق الأمر بوطني فلياء النسبة فيه عندي دلالة متكافئة، وما يعنيني هو الأرض والإنسان، عن قرب لا عن بعد لأن أرض الوطن على نفس المسافة من قلبي: من تخوم أزواد شرقا على خط "الميز" إلى بساط "تارد" على شاطئ بحر الظلمات غربا، ومن ملامح "اتواراس" الخصبة شمالا إلى سمرة "انجاغو" الخصيبة جنوبا.

 

وعلى أديم هذه الأرض سامرت تاريخ الإنسان والحيوان والجماد، وشنفت أذني بهمهمة الزمن في غياهب "لمرية" واستمعت للحن الرياح المهاجرة في كل فجاج جبال آدرار، وعانقتني ساحلية المحيط الهادر، وداعبتني رياح الجنوب الندية، وانحنيت أمام عواصف المطر، وطويت ثيابي على ريح السموم..

 

لقد مرت سن قلمي على كل ذلك دون شعور بأي كلل أو ملل، بل رأيته يزداد ولعا وانجذابا لهذا الوطن الفاتن، رغم الشحوب الأليف، و الندرة الموحية، وجراحات الأزمنة المتتالية.

 

وعليه فإنني إذ أكتب اليوم عن الترارزة فأنا لا أكتب عنها لأنها كانت مسقط رأسي ذات يوم عابر وإنما لأنها جزء من كل يسكنني كما أسكنه هو وطني الحبيب موريتانيا.

 

1

ما أعجبني في اجتماع صاحب الفخامة مع أطر الترارزة

لقد أخذت مجموعة من الانطباعات الإيجابية عن هذا الاجتماع بعد أن تركت نفسي تسرح فيما وراء العوائق التي كانت تحول بين حواسي وبين إدراك كل التفاصيل المتدفقة أمامي عن كثب:

 

الانطباع الأول:

 أوحى لي مجمل الاجتماع بوضوح الرؤية لدى رئيس البلاد- الذي أصفه عادةً بأنه موفق- وهو وضوح ليس حول ولاية الترارزة، التي هي فضاء زيارة العمل الحكومي، وحدها؛ وإنما حول الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية العامة في موريتانيا عموما.

 

الانطباع الثاني:

الفهم السليم من صاحب الفخامة للسياق التاريخي العالمي الحرج، خاصة مع كوفيد 19 و مصاعفات حرب أوكارانيا التي ترتب عليها تحريك العلماء أخيرا لساعة القيامة بحيث لم يبق لها دون الوصول إلى لحظة الصفر عندهم إلا تسعون ثانية، ساعة ونصف من أصل 24 ساعة، لأن العالم، بفعل فاعل ما، أصبح على حافة جحيمين: جحيم الجوع البدني والروحي، وجحيم الدمار الشامل..

 

وتمتطي نخبة العالم النافذة للوصول المتسارع إلى النهاية المريعة: مراكب المكابرة الإعلامية، والمقامرة الحربية، وانعدام المسؤولية، والعمى الأخلاقي، والإفساد في البر والبحر، والغباء العام في التصور، مما يعني أن الوصول إلى النهاية شبه مؤكد عندهم.

 

وما فهمته من خلال تدخلات صاحب الفخامة أنه ليس وراء حدود الوطن ما يعول عليه اليوم. ولذا خصص الزيارة لتشييد مرفق الاكتفاء الغذائي الذاتي اتقاء للغول الجسدي: الجوع. وحفظا لشرف البلد كذلك.

ومن تشريف ولاية الترارزة عندي أن تختار القيادة من "قواربها" قارب نجاة للبلاد هو الزراعة، و من طرف صاحب الفخامة نفسه.

 

الانطباع الثالث:

أن ثمة مساحة واضحة تظهر بين مدى رؤية مصدر القرار ومساعديه التنفيذيين، فنزعة القائد واضحة إلى الواقعية، وعدم ادعاء إنجاز ما لم ينجز، لإكمال النقص على جميع المستويات، مع فتح بوابة التقويم على ما أنجز فعلا، والحديث عن إمكانيات واعدة لتحقيق مالم يتحقق بعدُ ، بناء على تحديد زمن كاف لإكمال المهام.

 

بينما يميل خطاب أغلب فريقه الحكومي أحيانا إلى مبدأ أنه: "ليس بالإمكان أبدع مما كان". التبريري.

 

مع ملاحظة استثناءات عكستها عروض بعض الوزراء سأعرج عليها لاحقا.

ولقد كان التفاوت الواسع أحيانا بين مصدر القرار وبين جهاز تنفيذه طبيعيا بحكم درجة تحمل الأمانة الكلية والجزئية، هذا مالم يكن ذلك التفاوت مدعاة لتنشيط آلية لامتصاص هذا الجهاز للرؤية الإيجابية لدى الرئيس، و إفراغا عمليا لطموحه المشروع إلى بناء موريتانيا مزدهرة. ويتأتى امتصاص فريق العمل التنفيذي لمضامين برامج الرئيس، تعبيرا منهم إما: عن عسر في الاستيعاب، وإما عجزا في الأداء، وإما ارتباكا وتهيبا.. رغم أن حديث الرئيس أبان عن نوع من إنصاف فريقه الحكومي والدفاع عنه بأسلوب عبر عنه بلباقة في أكثر من موقف، لكن دون تعاطف مع التراخي في التنفيذ. ولعل إلزامه أثناء الجلسة لوزير التجهيز بإنجاز طرق روصو الداخلية على جناح الاستعجال رغم تبرير التأخر بتهالك شبكة الصرف الصحي، ورد الرئيس على النزعة التبريرية بأن حالة المدينة أفضل في سبعينات القرن الماضي منها الآن، نقد كان نقدا ذاتيا مشكورا، ورسالة واضحة لجسر هذا التفاوت بين منظورين، على نحو عملي..

 

الانطباع الرابع:

اتضاح خاصية القيادة بصورة لا لبس فيها، من خلال الحنكة، والكياسة التي ظهرت عبر تصحيحات، وإعادة تسويغ، ودفع أفكار تشاؤمية، أو تنحو إلى المبالغة سلبا أو إيجابا.

 

إضافة لتحكم كامل في خيوط الجلسة وحل تشاكابكات المتناظرين.

لقد ظهر في هذه النقطة ما يمكن أن أسميه خط الأفق الفاصل بين قائد الفريق الحكومي ومرؤوسيه في كل تفاصيل الاجتماع مع أطر الترارزة، وهذا الخط هو محك حقيقي لتقويم موضوعي لكاريزما القيادة وأهليتها، في حقل المناظرة المباشرة، بين الأطر والوزراء، وهو وضع يعطي القيمة الفورية الميدانية غير المزيفة لكل وزير، في إبراز الطاقات الكامنة لديه، ويقول المثل الحساني في هذا المقام: "الي عندها شي دارته"، وقالت العرب: "لا عطر بعد عروس".

 

وأتصور، والله أعلم، أن رئيس البلاد أراد من وراء هذه المواجهات الميدانية لوزرائه مع النخبة:

- أن يدفعهم إلى أتون الامتحان المفاجئ، ليس أمام لجنة قد تحابي أو تتغاضى عن بعض الهنات والأخطاء، بل أمام لجنة تحكيم موسعة لا يعنيها ما إذا كان الوزير قد راجع مادة امتحانه أم لا؟ إنما يعنيها تحديدا أن تصدر حكما نهائيا غير قابل للاستئناف على المعني، ليتفرق دمه فورا بين أشتات المواطنين، ولينشروا نتائجه تحت الضوء الكاشف للرأي العام.. وهذا النهج الميداني أعتقده سليما وفعالا ومبتكرا (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة).

 

- تأكيد أن رئيس الجمهورية ليس كأحد من وزرائه، ولا ككل وزرائه أيضا؛ بل إن ثمة مسافة معتبرة يلاحظها المتفطن وغيره، بينه وبينهم. سواء تحققت هذه الآلية عن قصد مسبق أو عن غير قصد. فالرسالة وصلت.

 

الانطباع الخامس:

أن مسار مؤتمر الأطر في جانبه الرسمي، اتجه إلى فرض الرئيس لإيقاع الأداء الميداني للاجتماع بصورة متنامية، مما أظهر الفرق واضحا بين أداء الوزراء في تقديم الأجوبة المقنعة وسرعة تكيفهم مع الإيقاع.. ويسمي الرياضيون هذه الحالة بالفرق في ميزة المهنية عن غيرها كلما طالت المباراة.

 

لقد وجد الوزراء أنفسهم ضمن وتيرة أداء ميداني لم يتكيف معها بعضهم لكنه صبر للموقف، وأرهقت بعضهم بشكل واضح. وللإنصاف فقد أبان بعض الوزراء عن أصالة ومهنية واجتهاد.

 

الانطباع السادس

حتى لا أظلم من لم يشارك من الوزراء فحكمي مقصور على من شاركوا في الامتحان المفاجئ فقط. مع احتفاظي لمن لم يشارك بذاكرة إيجابية، لمعرفة سابقة مني بهم. سواء حضروا أم لا.

 

الانطباع السابع:

أعجبتني منهجية بعض الورزاء في تقاريرهم عن قطاعاتهم وموضوعيتهم في العرض، وإيجازهم في القول، وتكميل لمواضيعهم قبل نهاية الوقت الافتراضي للواجب، والتزامهم بالموضوع - ولتسمحوا لي فأنا أستاذ قبل أن أمتهن الكتابة- وعلى رأس هؤلاء وزير الداخلية الذي قدم تقريره إجابات محددة على أسئلة نابضة في قلوب المهتمين. وقد بدا ذلك من خلال التلقي في القاعة والتفاعل الإيجابي، لما اتسم به أداؤه من ثقة في النفس، وواقعية في المضمون، حيث لم يضخم أرقام التسجيل، بل أتى بها مهما كانت، مما أكسب لهجته تقبلا ومعطياته مصداقية، كما أطر إجاباته حول مخرجات التشاور الوطني للأحزاب تأطيرا بعيدا عن المبالغة والتهويم، والمكملات البلاغية؛ فكان تقريره بدلك وافيا بالمطلوب، كما لوحظ أنه كان من الذين استخدموا أقلامهم ميدانيا.

 

ثم جاء العرض الذي قدمه وزير الزراعة مفصلا تفصيلا مطلوبا، أجاب فيه بالفعل على أسئلة متعددة في صلب الموضوع الرئيس، والإجابة عليها مطلوبة بإلحاح.

 

ثم جاء تدخل وزير المياه حول وضع المياه في الولاية فكان دقيقا للغاية، ودالا على حفظ الرجل لملفه عن ظهر غيب. وجاءت تكملة رئيس الجمهورية حول النسب الوطنية لنقاط المياه وفي الولاية موفقة ومطمئنة للخواطر، لدى من فهم من أطر الترارزة أن الأرقام قد توحي باحتمال توقف الوزارة عن إنجاز المزيد في الولاية. فكانت تلك الطمأنة الرئاسية لمحة في محلها.

 

وقد كان أداء وزير المالية مقنعا وموجزا، لم يزد على المطلوب ولم ينقص عنه، فتلاءم مع السياق. وهي خاصية عهدتها فيه يوم كنت أدرسه إحدى المواد الصعبة.

 

أما تدخل وزير الاقتصاد فكان ينم عن رؤية جيدة لملفه، عبر عنها بأناقة منهجية.

 

وزيرة الوظيفة العمومية قدمت عرضا يدل على أنها بذلت جهدا محمودا في إعداده.

 

وزير الصحة قدم خطابا مقنعا مفيدا، فأبلغ عن إنجازات ووعد بأخرى حيوية للغاية، ومطلوبة للغاية، في الولاية. وأطر كلمته بإطار جميل ترك أثرا في بعض الأغلبية الصامتة من أطر الترارزة. بل إن بعض المتداولين في المقاعد الخلفية رأوا في تدخل وزير الصحة بشارة خير لإسعاف تدخلات بعض الأطر، عانت عند إخراجها من جفاف شديد في البشرة، أو التعرق أو فقر الدم، أو السعال الديكي، أو نقص رطوبة الأفكار أوعسر في ميلادها..

 

إلى آخر ما عانت منه تلك التدخلات المفجعة أحيانا، من أمراض باطنية وخارجية؛ رغم توقع جودتها قبل إخراجها. ونحن هنا نحكم بما سمعنا لا بما كنا نتوقع.

 

هذا دون أن ننسى ما انطوت عليه بعض التدخلات التي تؤكد القاعدة، حيث كان من بينها القليل الجيد ضمن الكثير العث، وجزى الله عنا صاحب الفخامة خيرا إذ سمّن بعض هذه التدخلات بعد أن ذبحها أصحابها على عجل قبل التأكد من حقيقة شحمها..

 

ولقد راجع البعض مرارا في إثر تلك التدخلات، لكن صاحب الفخامة استنبط منها بعض الإجابات الهامة، وذلك ليس أول خيره على أطر الترارزة ولن يكون آخره إن شاء الله.

 

لقد تدرجت تدخلات الوزراء الباقين ورئيس أرباب العمل والمديرين الفنيين بين المهنية وبين عدمها، حسب ترتيب أحتفظ به لنفسي. وما ذكرته هو مجرد أمثلة من عدد كبير من التدخلات التي أضافت وأضفت حيوية وثراء للجلسة.

 

وقد لفتت انتباهي لطيفة في هذا السياق وهي أنني فوجئت بأن كل أحد يطلب الدولة مهما كان مستواه المادي، فحتى رجال الأعمال يطلبون الدولة أيضا، لكن بفارق جلي بينهم وبين فقراء الأطر، وهو أن مطالب أرباب العمل عالية السقوف بينما مطالب الأطر مجهرية. وكنت أعتقد قبل اليوم أن الأطر والمواطنين العاديين هم وحدهم من يطلب الدعم المادي من الدولة. فسبحان مقسم الأرزاق والقناعة.

 

لاحظت تبعا لهذه اللطيفة أنه في جو من التضخم العالمي الطاحن لايريد أرباب العمل والمستثمرون عندنا أن يتقلص هامش ربحهم من الدولة والمواطن من باب أحرى فتعجبت أكثر.

 

لقد كان مسعى صاحب الفخامة لنزع فتيل الحساسية مابين السكان المحليين والمستثمرين الكبار مفيدا جدا وموفقا، وقد نجح بالفعل في امتصاص الاحتقان المتزايد بين الطرفين.وكان التكييف الذي ذكر ملائما لتبريد سخونة رؤوس الطرفين.

 

2

ما لم يعجبني من الاجتماع

 

الانطباع الثامن:

بصدد انفعال والي الترارزة، الموصوف بالكفاءة -حسب شهادات بعض المتدخلين- تجاه الغوغائية التي اتصفت بها ثلة في القاعة، مع ملاحظة أن بعضها لا يتصف بأنه إطار، إلا إذا قصدنا المعنى العام للإطار؛ ورغم افوضى المدانة فإن وصف والي الولاية المحترم ل"أطر الترارزة - كلا- بأنهم غير مسؤولين"، وذلك في أسمى محفل وطني، أمر يدعو للدهشة. وقد حز في نفسي بل سرت إليها خواطر من عدم ارتياح كنت أعتقد أنني نسيته في محطة الطفولة، لو يصدق علي هذا الوصف غير المناسب لمثلي، خاصة أن والينا المحترم مسموع الكلمة في رعيته، والشهود على حكمته من جمهور القاعة مبرزون. وبناء عليه أطلب من السيد الوالي بكل أخوية أن بسحب علنا، حكمه القاسي على من لا يعرف من أطر الترارزة، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. أما من يعرف منهم فبينه وبينهم.

 

كما أطالبه مستقلا بالتحري قبل الحكم بما يعتبره البعض إهانة له و لغيره من الأطر المحترمين في ولاية الترارزة، وإن كان لايعرف هؤلاء فأنا مستعد لتعريفه عليهم واحدا واحدا.

 

لقد حضر منهم من ليس بين جوانحه إلا عزة النفس وجودة المعرفة، والكفاءة العالية، والانضباط وتحمل المسؤولية. وقد جالد في القاعة من أجل إسكات الضجة الجارفة التي أثارها الإعلان عن لائحة المتدخلين؛ ولذلك فوصف السيد والي الترارزة لهؤلاء الأطر بأنهم "ليسو مسؤولين" أمام رئيس الجمهورية والحكومة ورجال الأعمال، والعلماء والمراجع الاجتماعية والسياسية، محل لسجود بعدي، لزم السيد الوالي جراء نقص سنتين من سنن السلوك البشري المتوازن في المحافل، هما التحري في الحكم، والحذر في القول. فهو إذن موجب كاف لأن يتكرم عليهم صاحب السعادة الموقر باعتذار مقبول أو توضيح لطيف، يعكس حسن نيته التي سمعنا عنها من طرف من عرفه من المتدخلين، فوجبت له.

 

وسترى - السيد الوالي المحترم- نموذجا من حكم هؤلاء الكوادر المسؤولين على ما جرى من غوغائية مؤسفة حتى تتيقن أنهم مسؤولون ومحترمون ولا يوافقون على ما جرى.

 

الانطباع التاسع

 

 حول أداء المتدخلين من "أطر الترارزة"

تطبيقا لآلية النقد الذاتي منع المتدخلون القسريون والمبرمجون، وبعض المجازفين، بكل إقدام وضراوة وتضحية في غير محلها؛ أي مظهر من مظاهر الوقار والسكينة والانضباط، ما وسعهم ذلك، مما أدى إلى ذعر الأفكار والآراء المحكمة وفرارها من رؤوس بعض المتدخلين، إلا من رحم ربك، مما حور جينات تلك الأفكار إلى بعوض يلدغ الأذهان ويصيبها بحمى الاحتدام، فلم تعكس هذه الآراء المعبر عنها حقيقة رأي أطر الترارزة ومستواهم، إلا باستثناءات قليلة ومعروفة لاحاجة لذكر أصحابها لأنهم معروفون لدى كل من كان في القاعة.

 

ولعل السبب الجلي في هذا الوضع غير المقبول داخل القاعة هو الذي دعا رئيس الجمهورية إلى التحكم في المشاعر المتحفزة والفوضى العارمة حيث صرف انتباه جمهور القاعة عن الفوضى بحديثه الواصل المقنع الذي يعكس الاجتهاد والإخلاص والإحاطة، والواقعية، والتبرؤ من الكمال، والاعتراف بالنواقص والعمل على تسويتها. مع تهذيب وتوجيه بعض التدخلات التائهة، وانتقاء الصالح منها ليكون مناسبة للحديث عن موضوع من المواضيع الجدية، وهي حكمة بالغة فكان تصرفه هذا معلمة من معالم الترشيد الحكيم للقاء الذي كادت الشهية في المشاركة من طرف المتدخلين تعصف به تنظيميا.

 

وللتعليق على هذه الفورة غير الطبيعية فإني أرجعها إلى ثلاثة أسباب:

الأول: تحكم الولاءات لبعض الأطراف السياسية المحلية عبر اقتراح الموالين لهم على الإدارت الإقليمية المحلية، ليحتكروا التدخلات، إلحادا إلى أنهم هم أهلها وجذيلاتها المحككة. مع أنه -حتى هؤلاء-كان بإمكانهم اختيار من هو أفضل أداء من الأطر الواثقين في ولائهم الشخصي. هذا دون تعميم مني على كل المتدخلين إذ التعميم ظلم، وقد كان البعض جيدا في كفاءته لكنه أدى أداءه الأدنى بسبب تشويش الفوضى في القاعة واستطاع أفراد منهم السباحة بمهارة وإصرار في الأمواج العالية، لكن بصعوبة.

 

 الثاني:

أن خارطة المدعوين التي كانت فعلا دعوة جفلى، ولم تقتصر على الأطر بالمعنى الاصطلاحي، أدت إلى انفجار الأطماع في التصدر الإعلامي، والتميز في عيون الأصدقاء والأقارب والمعارف، فكان أغلب الأداء رديئا، وأقله مما يحسن عليه السكوت، وأقل قليله جيد. مما يعني أن المتدخلين لم يقدموا للضيوف الكرام صورة مقنعة عن حقيقة أطر الولاية الجادين الذين وصفتُهم في انطباع سابق.

 

الثالث:

أن إدارات الولاية لم تتعرف بما يكفي -في غالبها- على خارطة الأطر المحليين لجدتها. وبالتالي صدقت -بادي الرأي- من يملأ عيونها حضورا دون أن تجد الوقت الكافي لاختيار الأصلح أو التحري عنه. وأتصور أن الإدارة المحلية في المستقبل يجب أن تنأى عن تحرير لوائح المتدخلين، فأول ما أثار ضجة قاعة "الأطر" في روصو هو اعتماد الوالي للوائح هذه الإدارات.

 

الانطباع العاشر:

لفت انتباهي أن لا يثير المتدخلون نيابة عن الأطر فكرة واحدة حول ضرورة إسهام المحظرة والتثقيف الحديث، والتعليم الجاد بالولاية في بناء إنسان غير طارد للوعي التنموي، وخاصة الزراعي والرعوي الذي هو موضوع الجلسة.

 

إن نشر الوعي التوعوي هو ضمان نجاح الزراعة والتنمية، ومحرك أساس للإنسان البناء. ولا يتم هذا إلا عبر استحضار هذه الأبعاد، وحتى التسويغ الشرعي لاستغلال الأراضي المعطلة، الذي طرح لا يستقيم ويستتب أمره إلا بالفتوى والتثقيف والتعليم. لقد خيب المتدخلون توقعات الكثير من الأطر المحجوبين، لأنهم لم يقدموا فكرة أو إثارة بأن ولاية الترارزة هي ولاية من بين الولايات التي تعتمد التنوير المعرفي سبيلا لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء.

 

وألاحظ هنا من منطلق خبرتي في المجتمع الموريتاني أنه مجتمع يغلّب العادة على الحاجة، وأول وأرسخ معالم ذلك في ولاية الترارزة التي يتفاخر بعض نخبتها التاريخية بعيافتهم لأكل السمك رغم حفظهم لقوله عز وجل: (لتأكلوا منه لحما طريا)، وعلمه بأن البحر هو (الطهور ماؤه، الحل ميته)، ويقول مع ذلك:

 

خلطوا طعامهم بحوت يابس

وأنا أعاف الحوت يوم خروجه.

لكنه سلطان العادة الجامدة الأقوى حتى من مقتضيات الشرع.

لقد مات على أرض الولاية من ضحايا العقليات الفاسدة أكثر بآلاف المرات ممن مات ضحية للحاجة والعوز والجوائح، ولا يزال يموت إلى اليوم.

نذكر هنا أنه في سنوات 1942 و1969 و1973 مات خلق كثير في الولاية، والحال أنهم موجودون على أغنى شاطئ في العالم بالبروتينات. لكن عقليتهم تستعبدهم وتقتلهم، وأول مقاربة للتنمية وأجرؤها تبدأ بتثقيف معرفي وتعليم صحيح للمواطن، سواء كان مدرسيا أو محظريا.

 

لقد خجلت من أن وزير التوجيه الإسلامي و التعليم المحظري لم يجد جسرا واحدا على لسان متدخل واحد في القاعة من أطر الترارزة ليعبر عليه نحو المشاركة، و كذلك وزير الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان يتحدث عن الثقافة. والسبب؟

 

أن المتدخلين في ولاية المحاظر والثقافة مثل غيرها من ولايات الوطن، لم يذكروا قصدا أوغلطا كلمة (محظرة) ولا (ثقافة) إطلاقا في القاعة الموجودة على أرض هذه الولاية. ولولا مبادرة الرئيس نفسه للحديث عن مشاكل التعليم لما وجد التعليم في الولاية من يتحدث عن نواقصه.

 

هذا المظهر الغريب من تغييب الثقافة والتعليم و المحاظر، مما لم يعجبني في أداء الطرف الثاني في المناظرة التنموية الوطنية السامية ذلك الأداء غير المتوقع لبعض متدخلي الترارزة البارحة.

 

ولذا ساهمت بهذا الرأي اعتذارا للضيوف من أبناء ولايات الوطن والرئيس والحكومة من باب أولى، وللرأي العام، وأعتبر هذه المساهمة النقدية من جهة أخرى بادرة لتأسيس النقد الذاتي الواعي، الذي طبقه صاحب الفخامة في المجلس على نفسه وعلى حكومته، لأننا ما لم نقم به فسنبقى رهائن لتخلفنا واستعبادنا لعاداتنا المهلكة للزرع والضرع والنسل.

 

وفي النهاية

فذلك ما أعجبني، و مالم يعجبني، من ملابسات الاجتماع غير المسبوق لصاحب الفخامة والحكومة بأطر وبهذا المنهج.

 

أشكره خالصا على مبادرته الجوهرية في دفع حكومته إلى الميدان متسلحا برؤية ومنهج تنموي سليمين، وأبارك توجهه الذي سيكون له ما بعده، والتمس منه العمل الحثيث على تغيير العقليات السلبية ضمن أولويات برنامجه الطموح والواعي والمتبصر، عبر إشاعة نور العلم وضياء الثقافة، سبيلا للنهوض بالبلد، عند ما تتحول العادة فينا من السلبية إلى الإيجابية. وأؤكد له أن المواطن الموريتاني سواء كان إطارا أو مواطنا عاديا فإنه قابل للإصلاح والتقويم والتأهيل النوعي، وليس حالة ميؤوسا منها كما يشيع بعض عميان البصيرة: فالرهان على الإنسان الموريتاني رهان رابح في النهاية لأنه إنسان ذكي سريع التكيف، وإن حررت طاقته من عاداته الجحفة أبدع المعجزات.