على مدار الساعة

بين مُكَاء المعارضة وتصديّة الموالاة.. من سيعزف "سَيْني اللِّغْزَة" بعد الرئيس فالي؟

22 أكتوبر, 2022 - 13:36
محمد المختار ولد أحمدّ (أبو نزار)

لا يبدو أن الضوء الأحمر الذي أضاءه في وجوهنا - بمقاله الأخير المنشور على موقع "الأخبار إنفو" - أولُ رئيس للجنة الوطنية المستقلة للانتخابات (سيني) الشيخ سيد أحمد ولد باب مين - بشأن القصور الفادح والفاضح للسجل الانتخابي الوطني وما يستلزمه علاجه من إصلاحات هيكلية - أثار الاستنفار المتوقع في المشهد السياسي والإعلامي المحلي، وتلك لعمرك أولى بوادر الإهمال القصدي لسلامة وضع حجر الزاوية في معمار الصرح الانتخابي، ذلك الصرح المفترض فيه أن يكون "ممردا من قوارير" المؤسسية والمسؤولية توخيا للشفافية وطلبا للنَّصَفَة!

 

وبما أن ذلك الإغفال والإهمال أمارة ظاهرة الدلالة في إبقاء "سيني" على ما كانت عليه طوال العشرية الأخيرة خافضةً رافعةً؛ فإن أملنا - معشر بسطاء الناخبين - سيظل معقودا بناصية رئيسها القادم، وما سيكون عليه سيادته من خِلالٍ وما يحفّه من ظلال، وما سيتهيأ له من مزاج في الإنجاز، ذلك المزاج الذي انطبع - من وحي أبرز النماذج المختبَرة في رئاسة اللجنة - بإحدى ثلاث صفات: صرامة العسكري المنضبط، ووقار القاضي الحَرْفي، وأريحية السياسي "المفتوح"!

 

ولئن كان التعاطي مع مزاج النموذجين الأولين قابلا للتكهن؛ فما هو بذاك الجلاء بشأن النموذج الثالث.. وحالة سعادة السفير محمد فال ولد بلّال (فالي) – المنصرف توًّا عن رئاسة اللجنة - تنبئ عن ذلك بالكثير! فمن السهل فهم صرامة العسكري، وتفهم حَرفية القاضي، ولكن من المحير مناورة السياسي.. فكيف بالدبلوماسي الأديب "المتْبَيْظن والمژَّيْوَن".. بل والمعتز بـ"أژوانيته" ذات الشموخ والرسوخ، فإن ضممت إليهما "مخزنيته" المعرِقة فقد حزت بأمان ثالثة أثافيك!

 

والحق أنها ثلاثية تكشف مهارات الرجل التي خبرناها فيه - في مناسبات وطنية متعددة - أيامَ عمله سفيرا في دولة قطر: حنكة وحكمة ومُكنة: حنكة في التسويات، وحكمة في العلاقات، ومُكنة في المسؤوليات، وكلها صفات - بصرف النظر عن سلامة وسلاسة توظيفاته إياها - أهّلته بقوة لأن يكون خيارا "مخزنيا" مثاليا للإبحار بسفينة "سيني"، وهي تخوض عباب مسار انتخابي صُمّم لتمرير تحوُّل سلطوي أريد له أن يكون "تداولا سلِسا" على قمة السلطة، وإن لم يصبح كذلك في المحصلة فكان من أمر تبعاته ما كان!

 

لم تكن مآلات التحول "السلس" - في شقها السلطوي العُلوي - من مسؤوليات الرجل، ولكنه نجح في أن يبدو قائدا صلبا وصبورا للمؤسسة المشرفة على ذلك التحول: يمرر أهداف "الدولة العميقة" بأقل خسارة ممكنة في حقل العلاقات العامة سياسيا وإعلاميا، وهو حقل طالما أدمن الرجل التمدد فيه بكل جدارة وجسارة، وكانت "ثقافة التدنيت" أهم مفاتيح ولوجه لفضائه من باب عريض، وكأنه تمثل في قيادة "سيني اللجنة" ما تنطوي عليه مهارة العازف لمَقام "سيني اللِّغْزَة"!

 

لستُ على معرفة بتأثيل لغوي مقنع لمفردة "سيني" في لهجتنا الحسانية، لكن حقولها الدلالية تبدو مرتبطة بتوظيفات مستعارة من لغاتنا الوطنية غير العربية، ومن ذلك مثلا - عند بعضهم - مصطلح "سيني" المرتبط بوجبة "مارو والحوت"، ولا يبعد أن تكون من تلك المستعارات اللفظية "سيني" أژوان التي تطلق على أربعة مقامات موسيقية تتراوح بين النوعين: "الزُّمْنِي" (العتيق) والمُحدَث، على شاكلة ما يعرف في أژوان بـ"أشوار التِّمْلاص" أي الألحان الموسيقية التي انتُزعت "حسانيا" من الموسيقى الإفريقية وأدمجت في النسيج الموسيقي الخاص بـ"التدنيت"، وهي ظاهرة فنية بديعة ومن أطرف وأظرف تجليات الترافد الثقافي - أو التناصّ الفني حتى لا أقول التقارض - بين مكونات هويتنا الثقافية ووحدتنا الوطنية.

 

ومن "زُمْنيات سينيات" مقام أو "رَخُو" قليل الشيوع - بل ونادر العزف - أبدعه الفنان محمد العَيْور ولد آگمتار في اظهر "فاغو" من "اجانبة الكحلة"، ويدعى: "سيني اللِّغْزَة" لأنه عزفه "لغز" عويص يقتضي مهارة فائقة يوزع بها الفنان أوتار "التدنيت" (الأمهار والتشبطن) بين ثلاثة "اظهورة" في وقت واحد وبتناغم دقيق: التشبطن في تنچوگه، والأمهار بين سيني فاغو والتحزام.

 

ويقودنا ذلك إلى تقرير أن الشَّبه بين "سيني اللجنة" و"سيني اللِّغْزَة" يتجاوز مستواه الشكلي ذا الصلة بالاسم إلى بُعده "الفني" المرتبط بالغرض والمغزى؛ فتوزيع الفنان أوتاره بين المقامات الثلاثة المؤلِّفة للحن "سيني اللِّغْزَة" لا يوازيه - في لزوميته ومنظوميته - إلا تنويع رئيس "سيني اللجنة" ارتباطاته بين العلاقات الثلاث الضامنة لحسن سير مؤسسته منهجا ومُنتجا: الصلة الوثيقة بالدولة العميقة لتعرُّف مرامها.. والاتصال الدقيق بالموالاة لكسب ما لها من "تَصْدِيَّة" (تصفيق تأييد).. والتواصل اللصيق مع المعارضة لتقليل ما تصْدره من "مُكَاء" (صفير احتجاج)!

 

وفي تقديري أنه لم يبرع في تمثُّل الخِلال الثلاث رئيس للجنة كما برع "فالي"، ولعل من آيات ذلك تعيينه في منصبه الجديد المبرهن على أنه - في نظر الدولة العميقة - قد "أجادَ الحُلَّةَ: رَيْطَها وسِرْبالَها"؛ فمن سيرى رأيَه ويَفْري فَرْيَه في السير المنضبط على "ناموس المشايخ" من عمالقة رجال المخزن وأساطين وكلاء الدولة؟!

 

أما خليفته على رئاسة "سيني اللجنة" فقد لا يكون - على شاكلة معظم الناخبين - سمع أنغام "سيني اللِّغْزَة".. ولكنه يعلم حقَّ اليقين أن آليات تدبير "سيني اللجنة" يجب أن تظل لغزا مخزنيا.. بل لغز الألغاز.. حتى ينال مكافأة نهاية خدمة مجزية لقاء جودة صنيعه عند مصطنعيه، فتنسيه دِرّتُها السائغةُ منغّصاتِ ملاحم الانتخابات، وتجعله في نجْوة من النوائب وإن خاصمه مترشحون حالمون بمناصب عُمَد ونُوّاب وربما رؤساء، وتلك خطة خسْفٍ لا يبدو أن لشعبنا المعترّ عنها من محيص، ما دام أمضى أسلحته أن يدعو بما دعا به الرجل الأول نصرةً لوليّ نعمته: "جُعلتُ فِداكَ، سيكفيكهم الله بالبلغم"!! 

خدعــتها بكــلام يُســتلذّ به

وإنما يُخدَع الأحرارُ بالكَلِم!

 

فمتى تُقلِع قوى مجتمعنا الحية عن "نضال البلغم" وتدرك أن الدنيا غِلاب وأن "كل مخاضات الفرات معابر"؟!

 

أما صاحب الفخامة فالظاهر أنه صرف تفكيره وتدبيره عن الوفاء بـ"تعهداتي" إلى ما يؤمّن استيفاء "عُهداتي"، مطْمئنا إلى أن عُصبة الجند ستعوض في سبيل ذلك ما قد تقصر عنه عصبية الموالاة!

 

ويحدثنا حال مزاج فخامته أنه ما زال يستعذب مع عَزَفَة "شور آمريگ" وصيتهم الغزلية الأثيرة: "لا تبيتنّ خاليَ البالِ"!! وفي ذلك من التفريط في أمانة "تعهداتي" وشعبها ما يجعل بقاءه عهدةً أخرى في القصر الرمادي "كيفْ اگعادْ الورگه * فَبَرّادْ التالي"!!