على مدار الساعة

الشيخ يوسف القرضاوي، هَرَمُ مِصْرَ الحقيقي

10 أكتوبر, 2022 - 14:57
باب ولد الشيخ سيديا

عالم سني متبحر، خطيب لغوي متمكن، باحث إنساني مدقق، مؤلف متمرس مبدع وشيخ أزهري عن جدارة واستحقاق.

 

كان الشيخ يوسف قويا في قول الحق قوة الأهرامات، صلبا ثابتا على المواقف صلابتها وثباتها، شامخا شموخها دفاعا عن عزة الأمة وكرامتها.

 

تربى فقيدنا في زمن مصر الجميل وواكب أهم أيامه إبداعا وتألقا وعاصر أعظم عظمائه في شتى أنواع الفنون والمعرفة.

 

عاش جريحا بين السجن والمطاردة في وطنه الذي كان لا بد من مغادرته له ففارق الأهل والأحبة على مضض.

 

ظل الشيخ يوسف القرضاوي دائم الترحال لا يأبه بالغربة ووحشتها ولا بالسفر ومشقته فحول المطارات في رحلاته إلى قاعات للدرس وجعل من السهول ساحات لبذر مبادئ الحرية والكرامة ومن البحار ينابيع لسقايتها ومن الجبال منارات للدفاع عنها بإظهار الحق واتباعه وكشف الباطل والابتعاد عنه، فتحولت كل المدن التي زارها أو سمعت عنه في أنحاء العالم إلى خلايا نحل دائمة البذل والعطاء في نصرة الأمة ودينها.

 

ظن الشيخ أنه وضع عصى ترحاله في جزيرة تلاطمت عليه بحورها الهائجة فاتخذ من علمه وكتبه ومؤلفاته ذات ألواح ودسر ظلت تحميه على ظهرها فلم تستطع أمواجها أن تبلل منه إلا أعضاء وضوئه ولم يغترف منها إلا غرفة تطهره من أدران الزيغ وأهله وتعينه على نصرة الحق وإظهاره، لكن ظنه سرعان ما اصطدم بالحقيقة فتعرض للمؤامرة تلو الأخرى والخيانة تلو صاحبتها ولولا إحساس الشاعر أبو الحسن التهامي المرهف لقلت إن الشيخ يوسف هو من أنشد:

 

لله در النائبات فإنها *** صدأ اللئام وصيقل الأحرار

 

تلاطمت أمواج جزيرة يوسف من جديد بشكل لا يقبل البقاء هذه المرة فكان لا بد له من الرحيل مجددا.

 

استقبل الأتراك بكل شجاعة هذا الشيخ الجليل وقد كان أحوج إليهم من العطشان إلى الماء البارد، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يستلوه من عروبته الراسخة في أعماق كنانته وكأني به قد أنشد قول المتنبي حنما وطئت قدمه عاصمة الدولة العثمانية:

 

رماني الدهر بالأرزاء حتى *** فؤادي في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتني سهام *** تكسرت النصال على النصال

 

حاربه القريب قبل الغريب فظل صامدا كأهرام مصر رغم شدة الطعنات وحاول الغرب أن يحجب عنه مآذن القدس بقبته الحديدية وتهمة الإرهاب الجاهزة لأي مخالف قد يحدث تغييرا لكن صوته الجهوري العذب الصادع بالحق الذي لا مراء فيه قد اخترق كل ما أعدوه له وجعله دكا كأن لم يكن، فظلت كلماته تساقط على أرض فلسطين وأرجائها غيثا بعد أن قنطوا وثباتا وتثبيتا بعد أن أرغبوا وأرهبوا وسكينة ورحمة بعد أن خوفوا وعذبوا.

 

أراد أهل الغلو والتطرف أن يتبنوه لكن وسطيته وميوله إلى التيسير في الدين حال دون ذلك، كما أراد الغرب أن يستهويه ويتعامل معه لكن صدوعه بالحق وموقفه من فلسطين وأهلها ومن الإسلام ومقدساته حال دون ذلك.

 

رغم أنه كان من أعلم علماء عصره، لم يقبل يوما أنه وصل مرحلة الإجتهاد لشدة تواضعه واكتفى بأنه حصل من العلم على ما يُمَكِّنُه من تبني الأيسر من الأقوال عند الاختلاف والرجوع إلى السنة عند الإبتداع.

 

خالفه كثير من العلماء وأصحاب الرأي لكن أحدا منهم لم يتجرأ على مواجهته حيا بمناظرته عبر الفضائيات أو ميتا بالرد على مؤلفاته الثرية الكثيرة.

 

احترق الكثير من رفاقه وتساقطوا تحت رونق السلطة وأظلمت عليهم قصور أهلها في سبيل دنياهم لكن يوسف ظل واقفا سعيدا يستظل بظلال القرآن  مستنيرا بضياء السنة الغراء في سبيل آخرته.

 

رحم الله العالم الجليل الشيخ يوسف القرضاوي وأبدل سيئاته حسنات وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

طابت أوقاتكم...