على مدار الساعة

مقبرة الرياض: حين يعيش الأحياء من الأموات

14 أكتوبر, 2010 - 09:57

الأخبار (نواكشوط) - يتقاسم محمد ولد خالد وزميله السالك ولد بلاه بغبطة "ريع" كل جنازة واروها التراب وخصوصا إذا كان المتوفى أحد الأثرياء. وفي المقابل، لا يخفيان مشاعر الوجوم حين "يندر العمل" أي حين لا يصل أي ميت إلى المقبرة، ذلك أن أطفالا صغارا وعائلات معدمة تعيش على دخل هذا النشاط الذي يزدهر أو يركد على هامش حسبما تجري به أقدار الله في العباد.

ذات الأمر ينطبق على عبد الله. ليس حفار قبور على غرار زميليه، لكنه يمتلك ورشة داخل أكبر مقابر موريتانيا يعد فيها ويسوق لافتات خرصانية تنصب على القبور وتحمل أسماء ساكنيها. يتعلق الأمر بـ"اقتصاد" يقوم على حافة المقبرة، فبينما يودع المصابون أحباءهم يوجد من يعيش خصيصا على مصائبهم. "مصائب قوم عند قوم فوائد".

ويجمع العاملون في هذا النشاط في حديث مع موفد "الأخبار" على وصف واقعهم المادي بالمزري ويستغربون بشدة عجز الجهة المسؤولة عن تشغيلهم، ذلك أنهم يعملون أصلا بأجور زهيدة كحراس للمقبرة فيما يبقى حفر القبور وبيع اللافتات أمرا ثانويا تضطرهم إليه قسوة الظروف.

 

خبرة يطوقها الهرم

 

قد يتصور البعض أن عمال حفر المقابر هم رجال أقوياء، أشداء، إذا ما نظر إلى طبيعة عملهم الشاق والذي يتطلب مجهودا عضليا كبيرا. لكن الأمر يختلف، فمن يقوم بهذه المهمة هما رجلان أنهك الكبر الذي بلغا منه عتيا جسميهما فخارت قواهما البدنية. رغم ذلك يمارسان عملهما الشاق بمنتهى الدقة والسرعة، كما لوكانا شابين في مقتبل عمرهما ويتمتعان بقوى جسمية خارقة.

خبرة الشيخين في حفر القبور هي حصاد تجربة دامت سبع سنوات. يقول ولد خالد إنه قدم إلى المقبرة في 2003 فيما قدم زميله ولد بلاه قبله بقليل ومنذ ذلك الحين وهما يزاولان عملهما كعمال حراسة وكحفاري قبور. ولا تقتصر خبرة الشيخين على هذا بل تتجاوزه إلى ما يعتبرانها معارف فقهية أخرى تتعلق بالضوابط الشرعية للقبر حسب ما سمعاه من علماء البلد. يقول ولد بلاه "الخيمة، وهي تسمية يطلقها ولد بلاه على القبر العادي الذي لا يتجاوز عمقه طول الساق إلى الركبة، لا يتجاوز عمقها فوق الركبة أما "خيمت خيمتين"، وهي تسمية يطلقها على القبر العميق جدا أي الذي يصل مفصل الورك، فهذه لا تتجاوز "عين الورك"، هذا ما سمعته عند العلماء"، مضيفا "أعرف أيضا الطريقة التي يحفر بها "اللحد" وغير ذلك.
 

أجور زهيدة

 

أما عن أسعار خدماتهما فغير محددة على ما يقولان ويتحكم فيها عاملا المستوى المادي لذوي المتوفى وكذلك "مستوى الكرم" عندهم. يقول ولد بلاه "الأسعار غير محددة فأحيانا نحفر لأحد قبرا من أعمق أنواع القبور فيدخل يده في جيبه ويعطينا ألف أو ألفين أو أربعة آلاف وفي أحايين أخرى نحفر نفس القبر لآخرين فلا يعطونا أي شيء، فذلك يراعي ظروفهم المادية، ونحن لا نلزمهم بأي شيء" كما يقاطعه ولد خالد.

ما يجنيه الشيخان كعائدات لعملهما ينضاف إلى الراتب الرسمي الذي يتقاضيانه من المجموعة الحضرية لمدينة انواكشوط والذي يتراوح ما بين 30.000 و40.000 أوقية. ويشكوان من تدني الراتب في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار.

يقول ولد خالد "الرواتب زهيدة وما نتقاضاه من ذوي الأموات قد يوجد وقد لا يوجد" فيما قاطعه ولد بلاه متحدثا بمرارة "نحن لا نعرف هل نتبع للوظيفة العمومية ككل عمال الدولة أم لا، كما أننا لم نستفد من الزيادات التي استفاد منها كل عمال الدولة، هذا فضلا عن أن المجموعة الحضرية حرمتنا من زيادة 50% التي أقرها نظام أعل ولد محمد فال وكذلك زيادة 10% التي أقرها نظام سيد ولد الشيخ عبد الله وبقينا هنا نعاني الأمرين" كما يقول.

 

"صناعة الموت"

 

عبد الله هو صاحب ورشة لصناعة اللافتات في المقبرة قال إنه أسس "ورشته" من أجل تأمين عيشه وتوسيع نطاق استثماراته في مجال أعمال البناء والمقاولة باعتباره فنيا في ذات المجال.

ويصرف عبد الله ما قدره 25.000 أوقية على "الخبطة" الواحدة الشيء التي تمكنه من الحصول على أكثر من أربعين إلى خمسين لافتة أسمنتية يبيع الواحدة منها 1.500 إلى 4.000 أوقية حسب الحجم، فيما يتكرم أحيانا ويتصدق أحايين أخرى ببعضها الآخر إذا ما أحتاج أحد أقاربه أو أحد الفقراء إلى لافتة ليميز بها جنازته، كما يقول عبد الله.
 

دخل عبد الله من مهنته هذه والتي يمارسها منذ أربع سنوات ونيف ليس محدودا -كما يقول - لكنه يرى أنه "دخل معتبر في الدنيا وله أجر أكبر في الآخرة حيث يعتبره من الصدقة الجارية".

ويقترح عبد الله نظاما جديدا لضبط الأموات يقوم على كتابة رقم كل جنازة مسجلة في السجل المحفوظ لدى مكتب التسجيل على اللوحات التي ينجزها وهو ما يسهل عملية ضبط الأموات برأي عبد الله الذي يرى أن مقترحه هو المعتمد في كل مقابر العالم. وفي المقابل يجب أن تتولى المجموعة الحضرية تكاليف إعداد اللوحات الإسمنتية، لكنه لم يجد حتى الآن ردا على مقترحه.
 

مقبرة مفتوحة

 

يشكو ولد بلاه من أن المقبرة مفتوحة على مصراعيها ويمكن لأي شخص أن يأتي ويدفن من شاء متى شاء دون أن يمر لا على الحراس ولا على "مكتب التسجيل" مضيفا "المقبرة ليست مؤمنة إلا من الجانب الأمامي الذي رمم حائطه منذ نحو ثلاثة أشهر أما الجانب الخلفي منها وكذلك الجانب الشمالي فغير محصنين تحصينا كافيا، أضف إلى ذلك أن الباب الخلفي للمقبرة مفتوح وليس عنده حارس وهو ما جعل ولد بلاه يشعر به الجهة المعنية قائلا "ذهبت إلى المجموعة الحضرية وقلت لها إن الباب الخلفي مفتوح وأن عليها أن تأجر له حراسا قبل أن تحدث مشكلة فتحملنا مسؤوليتها لكن بدون جدوى". ويعرب عن خشيته من أن هذا الوضع "يفتح الباب واسعا أمام دفن الأموات بطريقة غير شرعية ودون ضوابط".

مشكلة أخرى تمكن في اهتمام الموريتانيين بحسن الجوار والذي يمتد إلى المقابر أيضا لذا يصرون على دفن موتاهم بجوار أقاربهم أو مشايخهم أو علمائهم حتى ولو كانوا لا يجدون مكانا بجوارهم بفعل اكتظاظ المقبرة.

ويصف ولد بلاه هذا الموقف بـ"المشكلة الكبيرة"، مشيرا إلى أن هذا يتسبب دائما في وضع "دفين على بقايا دفين" آخر. ولا يجد ولد بلاده حرجا في الجزم بأن عددا كبيرا من الجنائز وخصوصا تلك المدفونة في الجانب الشمالي من المقبرة تم دفنها فوق جنائز أخرى، وذلك بذريعة البحث عن "حسن الجوار".