على مدار الساعة

حينما ترسم النيران ملامح الحياة

9 مارس, 2011 - 09:57

الأخبار (نواكشوط) - كان الوقت عاديا ونام أفراد الأسرة بهدوء في كوخهم المتواضع بحي غزة في مقاطعة عرفات ، كل شي ء على مايرام داخل المسكن ، ملابس متناثرة ، وضوء خافت ، ورياح تدخل بين قطع الزنك الذي يمثل المادة الأكثر استخداما في حي غزة الأشد فقرابين أحياء الصفيح في العاصمة .

سبعة أكواخ في حيز جغرافي لا يتسع لسكن واحد على الأكثر، في تلك الليلة الفاصلة في حياة محمد الأمين ولد باب ذو الستة عشر عاما ، حيث كان يراجع دروسه ، كما يفعل كل ليلة ، لأن اختبارين في انتظاره صباحا ، كما قالت لي أخته مريم السالمه التي أوصته بعدم النوم حتي يطفئ القنديل ، لكن النعاس غلبه ونام .

تروي مريم السالمة من سريرها المجاور لباقي الأسرة في المستشفي الوطني كيف كانت تفاصيل تلك الليلة السوداء؛ حيث تتذكر كلمات أخيها محمد الامين الذي فارق الحياة بعد يوم واحد متأثرا بحروقه ، " أوصيته بإطفاء القنديل ونمنا، في الساعة صفر.. استيقظنا علي النار تشتعل ، سمعنا أصوات أناس يريدون فتح الباب ، صرنا في جانب واحد الأطفال وأنا وأختي ومحمد الأمين يحاول إنقاذنا، كانت النار تقترب ونحن ينظر بعضنا إلي بعض ولا نقدر علي فعل شيء ، حتي وصلتنا ، ولا مفر من قضاء الله فَتح الباب وخرجنا من وسط النيران " .

ربما لم يكن محمد الأمين ولد بابو مدركا أن مصيرا آخر ينتظره في ذلك الكوخ ، وأن الدراسة التي يراجع لها ، والتفوق الذي يخطط له ، والمستقبل الذي يريد ، كلها أحلام تسرقها مأساة الفقر ، وبؤس الأحياء الشعبية ، وتردي خدمات السلامة في عاصمتنا الجديدة .

 

أثر بعد عين

 

فاجعة لن ينساها سكان حي "غزة" ، شواهدها لا تزال ماثلة ، بقايا من كتاب محمد الأمين الذي كان يراجعة قبل نومه بدقائق وقد التهمته النار هو الآخر؛ حيث وافاه الأجل قبل صديقة محمد الامين ليدفن في حاوية آوته بدون عوض ، عكس محمد الأمين الذي امتنع حراس مقبرة عرفات في انواكشوط من ترك أهله يدفنوه إلا بعد تسديد مبلغ ستة عشر ألفا .

" ملاحف " وحاويات مياه ابلاستيكية ، وأواني منزلية ، و "شنطات " وأغراض أخرى كثيرة ، كلها شواهد على هول الفاجعة، ومصابة في داخلها ببطش حريق أحال ألوانها المختلفة إلي لون واحد كساها وكل الحي سوادا يزداد كلما تذكروا محمد الامين أو عاودتهم لحظة الفاجعة ، حيث تتسلل أصوات من داخل النار تطلب النجدة ، وتسمع بكاء طفل رضيع يصرخ وأنت لا تستطيع فتح الباب ، لعنة الحياة أن تري وتسمع كارثة حقيقية وأنت عاجز عن أي شيء ، يقول أحد الجيران .

 

قبل أن نغادر الحي مررنا بأطفال مريم السالمة الذين نجوا لأنهم لم يصرَوا علي المبيت معها كما هو حال محمد الامين ، بكاء وسؤال .. أين أمي .. أين أخي .. أريد أن أذهب إلي أمي.. أريد أن أراها ، وكنا ندرك أن أيا منهم لن يري محمد الامين مرة أخري ، لًذنا بالصمت وغادرنا يلاحقنا بكاء تلك الطفلة التي تريد رؤية أمها أسرعتً وتمنيتً أنني لم أسمع ، لكن كل كوخ وبيت تمثَل لي شبحا لتلك الطفلة البريئة وهي تردد أريد أمي أريد أمي وكأني منعتها من رؤيتها .

 

متكئين عليها متقابلين

 

ترقد الأسرة كلها الآن في المستشفي الوطني وفي غرفة خصصت لهم - هي بكل تأكيد أفضل مئات المرات من سكنهم الأصلي ، ربما لأول مرة في حياتهم يتكئون علي الأسرة ، وربما كذلك أول مرة يضيئون المصابيح طيلة الوقت - , تجاوروا في أربعة أسرة وكل يقول نفسي نفسي , لا الأم مريم السالمه تستطيع فعل شيء لابنها الرضيع أحمد سالم -الذي لم تترك النيران من جسمه الغض موضع أصبع ، وصار يبكي طول الوقت ليزيد آلام مريم السالمة وهي التي تحمل قلب الأم وتجاور اثنين من فلذات كبدها في وضعية حرجة -، ولا حتي فعل شيء لمن تحمل في بطنها ويزيد من خطورة وضعها الصحي – كما أخبرت الطبيبة بذلك -
تقول لي مريم السالمة في كلمات متقطعة- الطفل الرضيع لا يجد ما يعبر به عن ألمه إلا هذا البكاء الذي لم ينقطع منذو دخولنا لهذه الغرفة ، إنه متألم إنه متألم ..حتي وهي بين الموت والحياة كل اهتمامها بأبنائها " إنه قلب الأم ".

ربما تكون" منَيه " أخت مريم السالمة أرادت لها الأقدار أن تبقي مرتاحة البال لا علم لها بما جري ، نامت ولا زالت نائمة في المستشفي وفي حالة خطيرة ، نامت عن محمد الأمين يراجع دروسه وعن مريم السالمة تبادلها أطراف الحديث وتؤنسها ، وعن أحمد يملأ الغرفة حيوية ونشاطا ،ربما لو سئلت لفضلت أن لا ترجع إلى هذه الدنيا حتي لا تري حقيقة ما جري بعد تلك الليلة التي حولت حياتها إلي جحيم .

أمام الغرفة في المستشفي وداخلها يكابد الأطباء - كما كل الأهل - مرارة الألم وهول الفاجعة ، تتلمس الطبيبة جسد الرضيع الغض "أحمد" لتخفف من بكائه وصراخه ، لكن النيران كانت أسرع ، حيث تركت بصماتها علي كامل جسده ، ولم تترك مكانا إلا وفيه أثر .

تتجول الطبيبتان بين الأربعة وتراقبان الخامس عن طريق حالة الأم ، صراخ وبكاء ، ثم تململ علي الفراش من طرف الأم المفجوعة مريم السالمة بعد أن لم يعد البكاء يعبر عن مكنون النفس .
 

 

مأساة لا تنتهي

 

وأنا أغادر المستشفي قابلت والد السيدتين مريم السالم ومنَيه - ومن كان له حتي الأمس القريب ابن يسمي محمد الأمين - كان شيخا راضيا بقضاء الله ، يتكلم بعقيدة راسخة ، ويحدثك عن كرم الباري جل جلاله ، ويردد الحمد لله الحمد لله .

تكلم عن المصيبة التي ألمت بأبنائه وتكلم عن محمد الأمين ، عن بروره، و جده و مثابرته ، وكأنه ينظر في وجهه لحظة حديثه معي ، لم يترك الأب دموعه تنزل وإن بدا في صوته ما يدل علي ذلك .

تركت الجميع وأنا أري مصيرا قاتما ينتظر هذه الأسرة ، التي قلب لها الدهر- ظهر المجن - وأحالت حياتها إلي جحيم .

أوصتني الطبيبة أن أبلغ لمن يسمع ويري أن هذه الأسرة لا تستطيع تكاليف ربع الدواء لأنه باهظ الثمن ، قالتها لي وهي تؤكد علي ذلك وتعلم أني صحفي ولست رجل أعمال تقول لي نسيبة الطبيبة المشرفة قلها لكل من صادفت ومن رأيت " أغيثوا وأنقذوا هذه الأسرة " .

وأنا أنهي هذه الحروف التي لم تستطع إبداء جانب بسيط من حياة هذه الأسرة ، لا زالت الصورة أمام عيني ماثلة ، بقايا الأغراض السوداء ، وبكاء تلك الطفلة ، وأسرَة المستشفي ، وكلمات مريم السالمة ، وبكاء الرضيع أحمد .

لي في خاتمتي هذه أمنية أريد أن تتحقق ،" أن أحمل الطفلة إلي أمها حتي تراها وتطمئن ".

تقرير الصحفي: محمد يحي ولد ابيه