على مدار الساعة

أحمد كلِّي.. مسار الصراحة وحماسة الوفاء

2 أبريل, 2022 - 17:36
إبراهيم الدويري

يبحث القراء والمهتمون عادة في مذكرات الساسة والوزراء عن حيثيات بعض المواقف الملتبسة سياقا وتأويلا، أو المرافعات عن بعض القرارات التي يتخذها السياسيون في لحظات مفصلية من تاريخ المنظومة التي ينتمون إليها، ولهذه الأسباب نفسها حرصت على قراءة الجزء الصادر من مذكرات الوزير أحمد كلي ولد الشيخ سيديا "مسار من المسارات" لكن أسلوب الرجل ونطاق اهتمامه ودواعي خوضه غمار الكتابة تجعل القارئ ينصب اهتمامه بالمذكرات على جوانب أخرى  تناولها الوزير والمحامي بمستوى عال من صراحة القول وحماسة الوفاء.

 

في مذكرات أحمد كلي تاريخ عفوي لمجتمعه الذي ينتمي إليه كثير من رواد ومؤسسي الدولة الموريتانية الوطنية، وهو تاريخ لرموز المجتمع البوتلميتي وساسته وعلمائه وحرفييه وعلاقات هؤلاء بعضهم ببعض، وعلاقة الساسة وأهل الحل والعقد منهم بالخارج، وهذا مع أسباب أخرى شدتني شخصيا للمذكرات لا سيما وفاء أحمد كلي لجديه الكريمين عبد الله ولد باب ولد الشيخ سيدي و"الشانه" اللذين "من أجلهما قرر خوض غمار" كتابة مذكراته، مقاوما عوامل النسيان حيث يرى أن موتانا يستحقون علينا أكثر من التذكر الدائم، و"أنه لا ينبغي أن تكون استحالة الكلام عليهم مبررا لصمتنا"، آملا أن يساهم عمله هذا  "في إبقائهم في قلوبنا لفترة أطول وأن يخلد ذكرهم"، لذا كانت مذكراته "نقطة التقاء بين السيرة الذاتية والتنويه بأشخاص محببين" فمن هؤلاء الأشخاص المحببون؟

 

على كثبان عين السلامة وقت الأصيل جلس أحمد كلي متأملا بعد التقاعد فتداعت إلى ذاكراته صور من الماضي الجميل ففزع خوفا من أن تنمحي تلك الصور إلى الأبد بانقراض من عايشها من غير أن تُدَوَّن فهرع إلى كناشه وبدأ في تسجيل ما رأى فلم يتذكر كل شيء عن أهله "ما عدا السعادة العارمة وصورة الكتب المتراكمة التي تظل دائما محط الأنظار وفي متناول اليد يُلجأ لها أحيانا لحل معضلة دينية أو قراءة مقطع ذي دلالة خاصة يفضل بدافع الحياء أن تكون لغير القارئ".

 

هكذا وصف أحمد كلي محورية الكتب وحضورها القوي في خيمة جده عبد الله ولد باب ولد الشيخ سيديا، وهذا وصف جد طبيعي في مجتمع أنتجته الكتب ووحدته المحابر على تقى من الله ورضوان من لدن مؤسسه عالي الهمة العلامة ذائع الصيت الشيخ سيدي الكبير (1190هـ - 1284هـ) الذي جاء "بكتب يعجز العيس حملها" ثم تعزز مع حفيده المصلح الكبير باب الشيخ سيدي الثاني (1277هـ -1342هـ) المغرم بجمع الكتب وتفتيشها، وأثر هذه الكتب يتضح حين نعرف أن أصحابها من جلساء عبد الله كان يدفعهم "الإلهام والمعرفة إلى الأعلى رغم كل العوامل المقاوِمة" فكانت وجوههم ملهمة "يطغى عليها تفاؤل غير واقعي كأنهم يجلون الكتب وكلما هو مكتوب".

 

تلك الصفة العامة لرفاق عبد الله ولد باب ولد الشيخ سيديا كما انطبعت في ذهن حفيده  أما صفته هو فكان "لا يفارق القرآن شفتيه" والدعاء، "وتعتريه نزعة شديدة للنضال وقت الشدائد" كأنه ورثها من جده الأعلى، يرفض الخضوع للإدارة الفرنسية بعض الأحيان، ولتجذر الحس الإنساني فيه كان حتى وهو بمحضر الأمراء والسلطات الفرنسية ينحاز للمستضعفين والأطفال والمرضى الذين لا يهتم بهم أحد، يلتف حوله العلماء في غالب الوقت لقراءة وثيقة أو تعليق بصورة أعم على مقطع ديني أو أدبي لا يتدخل في النقاش.

 

تساءل أحمد كلي عن حقيقة جده عبد الله هل هو رجل معرفة وتقى أم رجل ميدان منخرطا كليا في رسم تاريخ البلد؟ ثم يخلص إلى أنه كان كل ذلك وأكثر فهو رجل كما يقول عن نفسه "لا يحس بالاطمئنان إلا إذا داهمه الخطر من كل جهة" كان يتمتع بطاقة هائلة يستمع للأخبار التي تنتقى له من ثلاثة مصادر ويعتني بالنبات والبيئة والحيوانات "فقد كان يظهر امتنانه لدابة مسنة للخدمات التي أدت له في حياته ويرغب أن يكفل لها نهاية سعيدة"، همة عبد الله العالية التي خلدها كثير من الشعراء ثناء عليه ورثاء له تتصاعد لمنافسة فرسنا في دفع تعويضات للمتقاعدين القاطنين في الحي الذين لم يعودوا يستطيعون العمل، ويقول لن يكون الفرنسيون أحسن منا في هذا.

 

بصفة عبد الله مسؤول علاقات عامة لأبيه ربط علاقات واسعة بمحيطه فكانت له زيارة مشهورة لطوبى مكث فيها سبعة أيام في خدمة وضيافة الشيخ الصوفي الكبير أحمدو بمبا امباكي (1270هـ - 1345هـ) وعاد محملا بأموال طائلة، وكانت علاقة عبد الله بإفريقيا المسلمة وطيدة إذ كان يحمل همها حين أنشأ معهد أبي تلميت لتطوير التعليم الإسلامي المحظري ولحماية الإسلام في إفريقيا، وقد استطاع المعهد أن يجذب طلابا أفارقة كانوا مسجلين في الأزهر، ويرجع أحمد كلي نجاح تجربة هذا المعهد إلى وجود العلامة الشيخ محمد عالي ولد عدود (1307 -140 ه) الذي كان تدريسه في المعهد "يضمن النجاح ويجذب الناس".

 

 

وللشيخ محمد عالي مكانة خاصة في ذلك المجتمع الغاص بالعلماء وفي مجلس عبد الله بالخصوص، فالعالم الجليل وشيخ الأساتذة يحافظ "على الصمت ولا يتدخل إلا في القضايا الكبرى وينصت إلى تعليقه ووجهة نظره باهتمام بالغ"، كما أن العلامة المحدث محمد ولد أبي مدين (1396 – 132 هـ) وفي لمنهجه السلفي فإنه يتدخل عند تفسير القرآن ليناهض التأويل وفاء للسلفية التي ورثها من جده باب "مع اليقظة النقدية لكل المصادر الأخرى"، ولابن عم ابن أبي مدين العلامة والشاعر محنض ونجله الشيخ المعلم الوقور والهادئ المتدفقين علما وأدبا وظرفا وحسن خط صفحات خضر في المذكرات.

 

وثمة عالم آخر هو عبد الجليل ولد عبد الرحمن كان يأتي كل صباح يحمل لعبد الله ورقة فيها نسب أحد الصحابة الذين كان يعرف أنسابهم أكثر من معرفته بأسرته الخاصة، وهو عالم حاد الطبع رمى يوما أحد مناكفيه بكأس من الشاي الساخن، وكان صديقا للسيد بلال  المسؤول عن التموينات في الحي وبلال بدوره كان يقرض الشعر وقد مدحه كبار الشعراء مثل المختار ولد حامد وموسى ولد باب ومحمد ولد أبي مدين، وكان أبناء الحي يعتبرونا بلالا أبا لهم جميعا "إضافة إلى كونه وجيها محترما ومرموقا".

 

أما القاضي إسماعيل ولد باب ولد الشيخ سيديا (ت 1409ه) فقد عزف عن الكماليات وعاش حياة ملؤها الاستقامة والجد، وكان يسجل يومياته – وليتها تنشر - وكان لورعه يحرص على الصلح بين الخصوم، ورغم شهرته بهيبة القضاء وصرامته فإنه "احتفظ بمرحه وشغفه بالشعر"، وكان مولعا بالأخبار ومن طرائف ولعه أنه كان يطلب من محدثه أن يحدثه بالكاذب من الأخبار قبل باقيها الحقيقي، ويحدثنا أن عمه إسحاق كان يفضل العمل اليدوي والمشي إلى التدريس خارج الحي، وأنه لم يغير من سلوكه الراقي ويقول بكل فخر "إنه متخصص في علوم القرآن والنحو العربي".

 

ولم تكن علاقة عبد الله مقتصرة على العلماء فعلاقته بأمراء زمانه مما أفاض فيه حفيده أحمد كلي لا سيما علاقته بالأمير عبد الرحمن ولد أسويد أحمد صديقه الأثير وحليفه في السياسة وكانت أيام مقامه في الحي أيام عيد للأطفال تتبدل فيها أحوالهم الغذائية والابتهاجية، كما كان صديقا لاحبيب ولد إبراهيم السالم، الأمير اهميمد، وما زال أحمد كلي يعي الكلمات التي قال عبدالله للأمير عثمان في شأن التنازل لأخيه عن الإمارة.

 

بعد عبدالله تأتي زوجته مريم السالمة "الشانه" التي تتولى "إدارة الأمور في غيابه" وتحوز كل الصلاحيات  في وسط عائلي "يتميز المزاج العام فيه بالتسامح والانفتاح"، تقوم بتدبير شؤون الحي ويساعدها سيدات لم يهملهم وفاء أحمد كلي فخلد ذكرهن وما تتميز به كل واحدة منهن إلى جانب جديه والعلماء والأمراء وهن السيدات سعيدة واستي وعيشات، وهنا ملمح مهم ركز عليه الوزير وهو دور التربية الدينية في تجسير الهوة بين البشر فقد "شكل ديننا وسكننا المفتوح ونظام حياتنا المتكافل عراقيل فعالة أمام التقوقعات الفئوية والفوارق الصارخة في مستويات المعيشة".

 

وبفضل إشاعة ثقافة المساواة يقول أحمد كلي "كنا نحن الأطفال المنحدرون من كافة مكونات  الحي الاجتماعية والعرقية ننام سوية تحت غطاء كبير مصنوع من جلود النعاج المدبوغة"، ويأكلون معا ويشربون معا ويدرسون معا ولكل واحد مواهبه التي تؤهله للفت الانتباه إليه وإثارة الإعجاب، وبفضل هذا التمازج والتعايش تعلم كلي في طفولته عدة لغات إفريقية.

 

في هذا المجتمع الذي عاش فيه أحمد كلي طفولته يحتل الاهتمام بالقرآن منزلة عليا ففي حفظه تتنافس الأسر والمجتمعات وقد حفظ هو القرآن صغيرا بصعوبة، وحين أريد له أن يلتحق بالمدرسة خافت جدته الشانه أن يكون ذلك الالتحاق سببا في نسيانه للقرآن، ولأهمية كتاب الله فإن معلمه كان يتم التكفل بكل ما يحتاجه وتعطى له الأولوية، وكان المعلم تقيا ومحترما من الجميع وهو الرجل الوحيد الذي لا يغادر الحي بسبب مسؤولياته وكان الضيوف المولعون بالمعرفة ينزلون عنده.

 

لم يكن هذا المدرس الورع عاشقا للموسيقى ورغم ذلك فإن الفنانين العابرين كانوا ينظمون عنده الحفلات الفنية فتهديهم الجدة الشانة الهدية المعتادة، وكان الفنانون ومن يحضر حفلاتهم يلجلأون إلى معلم القرآن خوفا من شغب الأطفال، وهو على كل حال يغلبه الطرب الموسيقي أحيانا فيتفاعل مع الموسيقى ويطلق عبارات استحسان في غاية الطرافة لكنها لا تنافي وقار شيخ القرآن، والحقيقة أن الموسيقى الشعبية كانت جزءا "من الثقافة وتعايشت مع التقوى والمعرفة الدينية" فإنها تعين إنسان الصحراء على تحمل الصعاب ومواجهة الشدائد.

 

ويرى أحمد كلي أن "أن الموسيقى عندما تثير الموت تقرب من الله وتؤدي إلى النتيجة نفسها التي يحدثها الصوم أو الصلاة" والأمر هنا لا يتعلق بالحفلات الصاخبة، والشيخ عبد الله نفسه الذي لا يفتر عن تلاوة القرآن أخبر حفيده أنه بلغ في صباه من المعرفة بالموسيقى بحيث كان إذا لمس الوتر يستطيع من خلاله أن يحدد المقام الذي توقف العازف عنده ويتأثر "بشور الأرحال" الذي يتناول الفنانون في مقامه الموت وهشاشة الوجود البشري.

 

لقد استرسلت في الحديث وضاقت المساحة المخصصة للمقال من غير أن أصل إلى الداعي الأصلي لقراءة المذكرات الثرية على اختصارها، وضاقت عن تناولي لجانب الصراحة أو أدب الاعتراف في المذكرات وقد تعمد مؤلفها الصراحة وعدم الغموض عن وعي، ويكفي من تلك  الصراحة أن نجد رجلا يقول عن جده التالي لكتاب الله أنه "كان يساند استمرار نفوذ الاستعمار الفرنسي معبرا عن ذلك بصورة واضحة"، وينشر وثائق عن ثقة المستعمرين فيه وشكره على ما قدمه لهم من خدمات، ولولا مسار الصراحة هذا لكانت المذكرات مرافعات باردة عن واقع دولي فرض نفسه ولكل صاحب علم ومتصد للشأن العام فيه وجهة هو موليها.

 

ثم إن لعين السلامة في نفسي مقاما ساميا بصفتها محرابا علميا لشيخنا الشنافي كان يتبتل فيه متأملا ومفكرا ومفيدا للزائرين، وقد نقل عنه أحمد كلي في البداية قوله رحمه الله: "إن نقاط الماء هنا لها في الغالب أسماء بربرية وأن الأمر نفسه ينسحب على الغطاء النباتي وأدوات السقي بل كل ما يتعلق بالمجال الرعوي". ليتك يا أحمد كلي أطلت لنا في النقل عن الشنافي.