على مدار الساعة

كيف يمكن أن تصبح موريتانيا قطبا اقتصاديا بحريا في غرب وشمال إفريقيا؟

4 مارس, 2022 - 00:38
سيدي محمد ولد محمد الشيخ - مهندس وخبير في الشؤون البحرية

توجد موريتانيا على ملتقى طرق بحرية يشكل منعرجا استراتيجيا للتبادل التجاري البحري بين الشمال والجنوب تمر منه أكثر من 20 ألف سفينة تجارية سنويا، وتمتلك مخزونا هائلا من مختلفة الثروات السمكية المتجددة والغازية والمعدنية وربما البترولية. ويعد البحر أحد أهم وأكبر محركات التنمية الاقتصادية في العالم، حيث يوفر إمكانات كبيرة للنمو والابتكار.

 

غير أن البحر وسط موحش له قوانينه ونظمه ومعايره الخاصة به والموحدة دوليا. هذه الخصوصية فرضت تكاملا وتماسكًا متناغمًا لتنمية وتطوير جميع الأنشطة الاقتصادية أو السياحية التي تمارس في هذه الوسط بطريقة متزامنة ومنسقة جيدًا.

 

لذا لجأت معظم حكومات الدول المطلة علي البحار إلى تجميع وتركيز مختلف جهودها الفردية من إدارات وموانئ وإعادة تشكيلها في وكالات أو مكاتب شبه تجارية قادرة على مسايرة ومتابعة نظم ومعايير الاعتمادات والتراخيص الممنوحة للشركات المهنية العاملة في مختلف انشطة الاقتصاد البحري. وتنظيم نفسها على المستوى الإقليمي في مذكرات تفاهم من أجل اتخاذ إجراءات أكثر تماسكًا وفعالية في هذا الوسط الموحش.

 

فيما سعت، الحكومات الموريتانية المتعاقبة إلى تركيز سياساتها على تنمية الصيد البحري باعتباره النشاط البحري الرئيسي الذي يساهم في ميزانية الدولة، متناسية بذلك متطلبات العولمة البحرية الشمولية الهادفة إلى تنمية متكاملة ومتزامنة ومتماسكة وفعالة لكافة الأنشطة الاقتصادية أو السياحية التي تتم مزاولتها في البحر أو بالقرب من البحر. فالصيد البحري لا يمكن تسييره إلا من خلال قوانين البحرية التجارية التي تسير العمالة والسفن والموانئ.

 

ومتجاهلة الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للأنشطة الاقتصادية البحرية الأخرى كالنقل البحري والخدمات المصاحبة له. ويتجلى هذا التجاهل من خلال عدم تفعيل اتفاقية الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الصادرة بتاريخ: 16 إبريل 1974، والتي يرجع لها الفضل في وضع قاعدة 40 40 20 المتعلقة بالتوزيع العادل للنقل البحري في البلدان النامية وعدم تفعيل المجلس الوطني للشاحنين سبيلا إلى امتلاك أسطول وطني للنقل والخدمات البحرية يساعد على خفض أسعار المواد الأولية على المواطنين ويخفف من وطأة الفقر والبطالة ويعزز تحقيق الاكتفاء الذاتي للبلد.

 

فموريتانيا اليوم لا تمتلك سفينة شحن واحدة رغم أن عمليات التجديد والتوسيعات المستحدثة مؤخرا على مجمل أرصفة موانئ البلد أدت إلى زيادة معتبرة ومتواصلة في حركية السفن ورفع حجم التبادل التجاري الذي قارب حوالي 35 مليون طن سنويا منقولة من وعلى متن أكثر من 1200 سفينة تجارية أجنبية ترسوا كل سنة في الموانئ التجارية والمعدنية والبترولية في كل من نواكشوط ونواذيبو.

 

شكل تقاسم المسؤوليات والوصاية الفنية والإدارية للموانئ التجارية حسب تخصصاتها وكذلك بعض المؤسسات الأخرى ذات المهام البحرية السيادية بين العديد من القطاعات الوزارية مثل وزارة التجهيز والنقل التي يتبع لها ميناء نواكشوط المستقل، ووزارة البترول والطاقة والمعادن التي يتبع لها ميناء اسنيم المعدني، واللجنة الوطنية للمحروقات التي تنظم تموين السفن بالبترول في عرض البحر، ووزارة البيئة والتنمية المستدامة التي تؤوي جميع مشاريع مكافحة التلوث البيئي البحري، ووزارة الدفاع الوطني التي حازت مؤخرا أكاديمية التكوين البحري بمجمل شعبه، ومنطقة نواذيبو الحرة التي تسيطر على معظم المنشآت البحرية في هذه المدينة تشتيتا لجهود وموارد ووسائل الدولة، وتناقضا صريحا مع المادة رقم: 9 من القانون رقم: 029. 2013 المنظم لمدونة البحرية التجارية التي تنص على أن سلطة الدولة البحرية هي وزارة الصيد والاقتصاد البحري. مما أدى إلى إضعاف القدرات البشرية والفنية والمالية واللوجستية لهذه السلطة.

 

فأصبحت سلطة الدولة البحرية أي وزارة الصيد والاقتصاد البحري اليوم عاجزة تماما عن القيام بمسؤولياتها كاملة، وأداء مهامها المتشعبة، ولعب مختلف أدوار الدولة في البحر بشكل أكثر تنسيقا وأقل تكلفة لخزينة الدولة، وأكثر مردودية على الاقتصاد الوطني. كما يشكل هذا التشتيت العائق الرئيسي الذي يستمر في كبح تطوير قطاع الصيد البحري والنهوض به، على الرغم من المراحل والاستراتيجيات والرؤى والبرامج العديدة التي رسمت لتطويره.    

 

في هذا السياق، فإن موريتانيا، شأنها في ذلك شأن جميع البلدان البحرية، ملزمة بالامتثال وواجب عليها رفع أداء إدارتها إلى أعلى المستويات من أجل مواجهة التحديات الرئيسية التي تفرضها إدارة وتسيير منطقتها الاقتصادية الخالصة، وشواطئها، وسفنها، وموانئها، وغير ذلك من الأنشطة المتصلة بالبحر للعب أدوارها كما ينبغي.

 

لهذا ينبغي إعادة تركيز موارد الدولة المشتتة، وإعادة صياغة مهام الإدارات والمؤسسات المتشابهة والمتداخلة الصلاحيات، وإعداد هيكلة جديدة للوزارة تعزز الإطار المؤسسي والتنظيمي للمستوى العملياتي لها لتمكينها من أداء مهامها ولعب أدوار وعمل الدولة في البحر، ودمج مساهمة أنشطة النقل البحري والخدمات البحرية بشكل تكاملي في تحقيق أهداف الاستراتيجيات البحرية للنمو الاقتصادي المستدام والشامل.

 

ستسمح هذه الإجراءات المؤسسية والتنظيمية التي تفرضها ظروف العولمة الاقتصادية البحرية من الرفع من جاهزية قدرات وزارة الصيد والاقتصاد البحري على تسيير شفاف وحكامة رشيدة تضمن نجاح إقلاع اقتصادي حقيقي للبلد والوصول به إلى مصاف الدول المصنعة والمكتفية بخيراتها. كما ستطمئن وتشجع هذه الإجراءات الاصلاحية المستثمرين والشركات العالمية المهنية المتخصصة في شتي مشارب الشؤون البحرية على الاستثمار في البلد.

 

ولكي يتم هذا الاقلاع فلا بد من اندفاع جميع القطاعات العمومية والخصوصية والفاعلين والمهنيين والمستثمرين الوطنيين والبنوك المحلية نحو المصلحة العامة ونبذ المصالح الشخصية والآنية ورفض الزبونية والرشوة وسوء التسيير. هكذا يمكن أن يتم تحقيق برنامج فخامة رئيس الجمهورية الطموح تعهداتي من اكتفاء ذاتي وخفض نسبة بطالة الشباب الموريتاني والرفع من مستوي الدخل القومي الوطني.

 

لتجسيد وتحقيق هذا الحلم، ينبغي اغتنام فرصة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي أعلن عنه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني في العديد من المناسبات وأثبت إرادته ونيته الصادقة والقوية في النهوض بالبلد اقتصاديا واجتماعيا والبدء فورا قبل انقضاء بقية مأموريته الأولي في عملية الإصلاح الاقتصادي الشامل، لأن موريتانيا تستحق ذلك ولديها المقومات المادية والمعنوية لتصبح قطبا اقتصاديا بحريا لا يمكن تجاهله في منطقة غرب وشمال إفريقيا.

 

والله ولي التوفيق