على مدار الساعة

جائحة كورونا؛ التدابير الرسمية الوقائية في ميزان الفقه

17 ديسمبر, 2020 - 14:23
د. محمدٌ محمد غلام,

يتحمّل الفقيه المفتي مسؤولية جسيمة ويرتكب خطرا عظيما، يعدل شرف توقيعه عن رب العالمين؛ فالتكليف بقدر التشريف، والغنم بالغرم والخراج بالضمان.

 

ومنجاة المفتي وسلامته في هذا التحدي الخطر، هي أن يتوكل على الله تعالى ويلجأ إليه، ثم في بذل جهده العلمي والعقلي (إذا كان يطمئن إلى أن له أهلية ذلك) للوصول إلى حكم الشرع؛ واضعا نصب عينيه توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) فالتبشير في الدعوة والتيسير في الفتوى.

- من التنفير في الدعوة وفتنة الناس عن دين الله تعالى، معاندة نواميس الكون ومعارضة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومصادمة الحقائق العلمية - التي لا تصادم الشرع ولن تصادمه - وتقديم ذلك للناس على أنه شريعة الإسلام.

- ومن التعسير على الناس في الفتوى إرغامهم - باسم الشرع - على ما فيه هلكة أبدانهم وإزهاق أرواحهم وتوريث التداعيات الصحية الخطرة على أبدانهم، فضلا عن إضاعة أموالهم وتخلف أوطانهم بإطالة أمد الجوائح... بغير بينة!

 

تتألف الفتوى الشرعية -كما تعلمون - من شقين اثنين، ينبني أحدهما على الآخر:

1. أولهما الواقع ومعرفته تكييفا؛ ولن أطيل في هذا الشق وأنا أتحدث عن جائحة صنفتها منظمة الصحة العالمية وباء عالميا، وأجمع الأطباء وخبراء الأوبئة - مسلمهم وكافرهم برهم وفاجرهم مشرّقهم ومغرّبهم - على خطورتها وسرعة انتشارها؛ وأنها داء قاتل بفتك، مورث للأدواء حتى بعد التعافي! وأن علاجها المتاح للجميع والتعاطي الصحي معها إنما يكون بالتباعد الاجتماعي والحذر من حمل الفيروس ومن نقل عدواه. وهي تقديرات كرّستها وزارة الصحة الوطنية؛ قرارات وتوصيات وتوجيهات. وهؤلاء هم "أهل الذكر" في هذا المجال.

 

2. وأما الشقّ الثاني فهو الحكم الشرعي على هذا الواقع!

وهنا فإن لنا - بل علينا - أن ننطلق من استحضار مجموعة من المسلمات الشرعية المرعية في الباب:

أ. قاعدة رفع الضرر ودفعه وإزالته التي تكرّسها قاعدة شرعية مجمع عليها، من القواعد الخمس الكبرى (الضرر يزال) وتعتمد على النصوص الشرعية المستفيضة التي يعد سوق آحادها إضعافا لها، كما يقول الإمام الشاطبي.

 

ب. أهمية حفظ الأنفس واعتباره إحدى الضروريات التي أجمعت الشرائع على حفظها.

 

ج. تقدير المال وأهمية حفظه (حفظه من الضروريات الخمس) خاصة عندما نتحدث عن "الاقتصاد الكلي" وعن المصالح المالية والاقتصادية العامة للوطن بل للأمة وما يترتب على ذلك من تهديد الأمن الغذائي والاستقلال والاستغناء عن الخارج المبتز.

 

د. نصوص رفع الحرج (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقواعده (المشقة تجلب التيسير).

 

هـ. همية الانسجام مع قوانين الدولة والتعاون معها في المعروف؛ خاصة في المسائل التي لا تكون العامة فيها على وزان واحد مع مؤسسات الدولة المتخصصة فيها؛ معطيات ومعلومات وتحليلات.

 

وبناء عليه فإنني أرى أن الحكم الشرعي في هذا الظرف؛ هو انتصاب الأئمة والعلماء والدعاة والمفتين، قدوة لمجتمعاتهم وأسوة للمقتدين بهم؛ تذكيرا بالله عزّ وجل؛

- توكلا عليه جل وعلا وتوبة له وإنابة إليه.

- وتوعية بخطورة الوضع وحقيقة الجائحة كما بينها المختصون.

- وتمسكا بالتوجيهات الصحية والشعائرية والميدانية العملية التي أصدرتها مؤسسات الدولة ذات الاختصاص، وانسجاما معها؛ بعيدا عن التعمق في الدين والتشديد على الناس والتشغيب عليهم في أمنهم الروحي؛ بإظهارهم "مجتمعا مفرطا في الشعائر مضيعا للفرائض" والواقع أن أفراد المجتمع الملتزم لم يزيدوا على أن "فرّوا من قدر الله إلى قدر الله" وتعبدوا ربهم - رغما عن عواطفهم - بالاعتياض عن بعض العبادات ببدائلها الشرعية التي خصصها الشارع لمثل هذه الحالات!

 

أما أن يرضى أهل العلم والفضل لأنفسهم بأن يحملوا راية التشدد والتعمق ومصادمة نواميس الكون وحقائق العلم، ليوردوا أرباب العواطف من ضعفاء العلم من المسلمين موارد الهلكة، ويسهموا في إضعاف أوطانهم وتعميق احتياجها للمجتمع الدولي وإطالة افتقارها لمدّ يد العون للخارج، فذلك ما لا أرضاه لهم. وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد نزلت رحمة للعالمين؛ شريعة فطرة وعلم، شريعة عقل وقلب، شريعة دين ودنيا.

 

 الله تعالى أعلم.