في غضون أيام تعلن – بإذن الله – نتائج مسابقة الباكلوريا، التي تختصر حصاد ثنتي عشرة سنة من الجد والاجتهاد، وحتى لو تفوق الطالب وحاز المعدلات القياسية فإنه أمام تحديات عصيبة لا يدركها إلا من كابدها، فمنذ اللحظات الأولى لإعلان النتائج يبدأ التفكير في القرار الأهم: اختيار التخصص وتحديد الوجهة، فالانتقال للحياة الجامعية منعطف بالغ التأثير، وقد يحتاج الطالب إلى من يمد له يد العون، ويوجهه تربويا وأكاديميا لاتخاذ القرار السليم، الذي يحدد مستقبله التعليمي ودوره في الحياة، وللمساهمة في مواجهة هذا الاستحقاق الصعب أوجه رسالتين: الأولى لإخوتي الناجحين وللقائمين على منظومتنا التعليمية، والثانية للناجحات اللائي يخططن للدراسة في الخارج، نصيحة من القلب لهن ولأولياء أمورهن.
طالب الباكلوريا والتخصص:
تفتقر منظومتنا التعليمية لمتخصصين في "الإرشاد الأكاديمي" أو "التوجيه التربوي" يقدمون المشورة لاختيار التخصصات المناسبة، ورسم الخطط التعليمية وفق أسس سليمة، وتقويم المهارات والقدرات والميول والاتجاهات، وقد درجت إداراتنا الموقرة على توجيه الطلاب المتميزين إلى الرياضيات، والجيدين إلى العلوم، وتوجيه الباقين إلى التخصصات الشرعية والأدبية، وهذا التقسيم الساذج لا تزال الأجيال تدفع ثمنه، ولا تزال جنايته عميقة التأثير في حياتنا العامة والخاصة.
وكلي أمل في أن يدرك القائمون على منظومتنا التعليمية فداحة قراراتهم وسوء صنيعهم، ويعيدوا النظر في هذه القسمة الضيزى، فليست الرياضيات والعلوم أولى ولا أعمق أثرا في دنيا الناس من الشريعة والإعلام والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها من التخصصات، بل إن الواقع يثبت أن خريجي الرياضيات والعلوم يعملون في الغالب تحت إدارة ومسؤولية أقرانهم خريجي العلوم الإنسانية.
وإن من المحددات المهمة في التوجيه مراعاة احتياجات سوق العمل، والتخطيط السليم للموارد البشرية، والعمل على توفير كافة التخصصات بشكل متوازن، ومع أن مجالات كثيرة تستقطب خريجي العلوم الإنسانية والأدبية فقد تعرضت هذه التخصصات لعملية تجفيف ممنهجة منذ عقود، وحيل بينها وبين الطلاب المتفوقين، فانعكس ذلك بشكل واضح على كفاءة وتأهيل خريجيها، وتسلل إليها الأدعياء وأنصاف المتعلمين.
ثم إن الطالب لا يمكنه أن يبدع إلا في تخصص يحبه ويستعذب عذاباته، فإن فرض عليه التخصص فرضا فحري به ألا يستمر، وإن استمر فلن يقدم شيئا ذا بال، فاتركوا – أيها التربويون – الوصاية على فلذات الأكباد، واستحدثوا وظيفة التوجيه الطلابي، حتى تقدموا المشورة اللازمة بشكل صحيح، فلا نجاح للعملية التعليمية دون الوظائف المساندة، من إرشاد تربوي وأكاديمي ومهني واجتماعي ونفسي، وأنشطة صفية ومدرسية.
وإن من جناية هذا التوجيه – أيضا - قصر الأذكياء والجادين على تخصصات أقل تأثيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، مما أدى لتسرب بعض العلميين من معاملهم ومختبراتهم لفضاءات التأثير فضيعوا في الحالين، هذا إذا وجدت المختبرات والمعامل، ولم يقتصر دورهم على العمل في مجالات أخرى لا تلامس اختصاصاتهم.
رسالتي لإخوتي الناجحين: اتخذوا قرارات سليمة ولا تخضعوا للابتزاز والتوجيه تبعا للقوالب الجاهزة، ادرسوا الموقف من جميع جوانبه واستعينوا بالله أولا ثم بأهل الخبرة، واختاروا مجموعة تخصصات تحبونها وفاضلوا بينها.. اختاروا التخصص الذي يتوفر فيه شرطان: يناسب إمكاناتكم وقدراتكم أولا ويوافق رغباتكم وميولكم ثانيا، ولا مانع من الاستماع لتوجيهات الأسرة دون الارتهان لها، ولا تنسوا أن هذا القرار يعتبر محددا لطريقة عيشكم ودوركم في الحياة، وتترتب عليه آثار عميقة تعليميا وأسريا واجتماعيا واقتصاديا.
الطالبات المبتعثات.. الرحلة إلى المجهول:
ما أسفت لشيء أسفي لأسرة محافظة تلقي بفتاة في عمر الثامنة عشرة إلى الضياع، دون وازع من خلق أو دين!.. ودون وعي لما يكتنف ذلك من مخاطر.. إنها خيانة للأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
هل يعقل أن ترسل فتاة في مرحلة الباكلوريا دون مرافقة أخ أو زوج أو أبوين، لإكمال دراستها في غربة لا يحتمل متاعبها ومصاعبها صعاليك الرجال؟!.. إنه قرار لا يدرك أبعاده الكثيرون، ففي مجتمعنا "طيبة" بل "سذاجة بداوة" تحمل الآباء والأمهات على اعتقاد العصمة في البنين والبنات في ثقة عمياء، ثم يلقونهم في مجاهل الغربة وتيارات الفساد دون وعي.
لقد مرت بنا – في حياة الابتعاث - مواقف تشيب لها الولدان، ويتفطر لها كل قلب يغار لحرمات وأعراض المسلمات، بدءا باستقبال الفتاة من طلاب "مراهقين" في مطار بلد الغربة، مرورا بإقامتها -اضطرارا- أحيانا مع شاب أو شباب بغرفهم في انتظار انتهاء الإجراءات.. وقبل ذلك وبعده تحمل متاعب ومصاعب ومصائب وأخطار الغربة.
لا أزال أذكر حين حطت بنا الطائرة في بلد مغاربي بعد فوات رحلة المغادرة فبقينا عالقين أياما في انتظار أقرب رحلة.. كانت تجربة مرة عرفنا من خلالها حجم المشقة والعناء الذي لا يستطيع تحمله أشداء الرجال فكيف بالنساء اللائي لمسنا ذوبان بعضهن في المجتمعات الجديدة، ففي إحدى طرق العودة للبلاد جمعت رحلة (الدار البيضاء - نواكشوط) شتات الزملاء، فكان الفضوليون يتهامسون: إن كثيرات رجعن بغير الوجه الذي ذهبن به!.
أخي ولي الأمر لا تغرنك دعاوى التحرر والانفتاح.. اعلم أنك راع مسؤول..
إن الأبناء والبنات أمانة في أعناق آبائهم وعليهم رعاية هذه الأمانة حق رعايتها؟.
ألا فليتق الله رجال ضيعوا الأمانة وخانوا الشرف والعرض، ألا فليعدوا للسؤال جوابا .. ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنه - : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والولد راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
وعنه أنه قال: "إن الله سائل كل راع عن ما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته".