على مدار الساعة

الإشكال الأكبر في عدالة توزيع الثروات

23 سبتمبر, 2020 - 13:07
د.سيدي عالي القاسم مولاي

قبل فترة هيئ لي أن أكون محاضرا في ندوة تتحدث عن التمييز الإيجابي في نظرية التوزيع، ورغم اعتزازي بتواجدي في تلك الندوة فإن الوقت الذي منح فيها لم يكن كافيا للحديث في هذا الموضوع المعقد،

 

ومعلوم أن تكثيف ما يحتاج إلى بسط قد يحد من جدوائية الحديث فيه، غير أني لاحظت من خلال المداخلات ضعف الجانب الفكري في موضوعات العدالة التوزيعة، و تعزز لدي من مواقف متعددة أنه الوضع السائد في الأوساط الجامعية والعلمية، وعزمت أن أبدأ كتابة سلسلة أبين فيها ما يحتاج إلى معرفته من العدالة التوزيعية إذا وجدت فرصة وواقعا مناسبا، مع رجائي أن يكون ما أكتبه فيها لبنة في نشاط فكري يرفع مستوى الوعي في هذه النظرية الأساسية في حقول معرفية متعددة.

 

وقد شاهدنا جميعا الاتجاه الذي تسلكه الدولة الموريتانية وترفع شعاره من خلال إنشاء وكالة "تآزر" وإطلاق برامج من طرف رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني كلها تتجه إلى التركيز على تحسين وضعية الفقراء ورفع مستواهم المادي، كإطلاقه قبل فترة حملة لتوزيع مبالغ نقدية على بعض الأسر الفقيرة، كما أن جائحة كورونا (كوفيد-19) ستفرض حتما سياسات مالية صارمة تسعى إلى تحقيق العدالة التوزيعية، أو على الأقل ستفرض نوعا من التوازن من خلال محاولتها خلق توازن في مستوى المعيشة، وهو ما تقتضيه ضرورات أمنية ومجتمعية واقتصادية، وهو ما استجابت له الدولة الموريتانية حين أعلن السيد رئيس الجمهورية خطة إقلاع اقتصادي قبل 3 أسابيع.

 

وقد وجدت في كل هذه العوامل دافعا يحثني على الكتابة عن الإشكال الأكبر في العدالة التوزيعية، وهو أمر سيقودنا إلى بيان المعالجات المفترضة، والتي ستوصلنا إلى استنتاجات وخلاصات يمكن أن تساعد في خلق استراتيجيات مع تبريرها بمبررات علمية، تجعلها مقبولة وعرضة للمراجعة والتعديل.

 

  وعليه فإن هذه السلسلة ستتناول أولا شرح نظرية التوزيع وبيان إشكال تحقيق العدالة فيها، ثم بعد ذلك ستحاول أن تكشف بعض الحلول المقترحة لمحاولة تحقيق العدالة التوزيعية، ثم أختمها بمجموعة استنتاجات وخلاصات، والله سبحانه وتعالى أسأله أن يوفقني فيها للوصول إلى الحق مع حسن عرضه وتبيانه إنه سميع مجيب.

 

1- نظرية التوزيع وإشكال العدالة فيها:

 

سأحاول بيان مفهوم نظرية توزيع الثروات وإشكال تحقيق العدالة فيها من خلال الحديث أولا عن نظرية توزيع الثروات، حتى أستطيع أن أحدد بعد ذلك طبيعة الإشكال الذي يعرض لتحقيق العدالة فيها، وهو ما سأحاول بيانه فيما يأتي:

 

1-1- مفهوم نظرية توزيع الثروات:

 

غالبا ما يراد بنظرية توزيع الثروات عند الإطلاق مختلف الآليات التي تحكم استحقاق الناتج من خلال تفريقه على العوامل التي ساهمت في إنتاجه على وجه الخصوص، ودراسة طبيعة عناصر الإنتاج وما يتعلق بها.

 

  ولبيان قصور هذه النظرة في بيان حقيقة نظرية التوزيع واختزالها، نحتاج إلى شرح ما تعتمد عليه هذه النظرة، فإنها تتعامل مع الثروات وفق مبدأ المعاوضة فقط، فتتخيل الثروة بعد وجودها، وتتعامل مع كيفية استحقاقها بمبدأ المعاوضة.

 

  ومن أجل إيضاح هذه النقطة فإن المستحدث - وفق هذه النظرة- يقوم بشراء العناصر المنتجة ( العمل، الأرض، رأس المال)، ويدفع ثمنها ثم يبيعها بما يجعل ثمنا للخدمات المنتجة.

 

 وعليه فإن هذه النظرة تهمل جانبين رئيسين في نظرية التوزيع أحدهما سابق لهذه المرحلة، والثاني متأخر عنها، وكل منهما يعتبر من صميم نظرية التوزيع؛ وذلك أن توزيع الثروة لا يمكن تخيله في الواقع إلا مع مراعاة هذه المراحل، وقد عبرت عن هذا المعنى في كتابي إعادة توزيع الثروات في الفقه الإسلامي، حين أكدت أن الإسلام في إطار توزيع الثروات ينظر إلى ثروة تتكون لتكون في أيدي بعض الناس ثم يراد لها أن تصل الجميع.

 

 وسأحاول أن أشرح هذه المراحل بأسلوب موجز فيما يأتي: 

 

1-1-1- توزيع ما قبل الإنتاج:

 

 يقصد بهذا النوع من التوزيع أساسا ما يتعلق بأسلوب ملكية الثروات الخام، أي ما يتعلق بملكية العناصر التي ستسهم في عملية الإنتاج من غير أن يكون قد لحقها ملك سابق.

 

  وقد جزم الدكتور رفيق المصري في كتابه أصول الاقتصاد أن الكتب الاقتصادية كانت تعتم عليه تعتيما تاما، وأن أول من أعاده إلى واجهة النقاش هو الأستاذ محمد باقر الصدر في كتابه اقتصادنا.

 

 ويتجه الاهتمام بهذا النوع من التوزيع إلى الاهتمام أساسا بالقواعد الحاكمة لملكية هذه الأموال، ويبدو أن المذاهب الفلسفية تختلف في الأساس الذي يمكن أن نعتبره المنطلق لملكية هذه الثروات، فبعضها ينطلق من الملكية الفردية، وبعضها يفرض الملكية الجماعية، وقد جزم باقر الصدر أن الإسلام لا يعتبر أيا من أنواع الملكية أساسا للملكية، وإنما يعتبر كل نوع من أنواعها أساسا في حقل معين، ونحن نوافقه تماما على هذا الاستنتاج.

 

1-1-2- التوزيع على عوامل الإنتاج

 

  يقصد بهذا النوع من التوزيع توزيع الموارد المنتجة على العناصر التي أسهمت في الإنتاج، وقد اختلفت المذاهب في تحديد هذه العناصر وتعدادها، وغاية التقسيم ما يعرف بالتقسيم الرباعي: الأرض، رأس المال، العمل، المنظم، كما هو مبين في كتب الفكر الاقتصادي.

 

1-1-3- إعادة توزيع الثروات:

 

 ويراد بها صرف جزء من الناتج إلى فئة معينة لم تسهم في إنتاجه؛ نظرا لأسباب تقوم بهم وتجعلهم عاجزين عن الكسب الكافي، سواء أكانت هذه لأسباب فطرية أو اجتماعية أو غير ذلك.

 

  ويبدو أن المذاهب الفلسفية تعتمد في تبريرها لضرورة هذا النوع من التوزيع على تبريرات إنسانية، تفرض نوعا من التطوع، وقد أعجبني تبرير للدكتور رفيق المصري حينما اعتبر أن الثروة الموزعة على الفقراء في هذا النوع من التوزيع إنما تعتبر حقهم في الأموال غير المنتجة استثمرها القادرون على إنتاجها ثم أعادوها إليهم.

 

   وقد انطلق الإسلام في تحقيق هذا النوع من التوزيع باعتماده على آلية تجمع بين الإلزام والتطوع، وهو ما استقرت على تطبيقه المنظومات الاقتصادية الحديثة.

 

1-2- إشكال العدالة في نظرية التوزيع:

 

   مع كشفنا بشيء من الاختصار عن مراحل توزيع الثروات، يمكننا أن نلحظ فروقا جوهرية بين أنواعها، فبعضها يكون التعامل فيه مع ثروة لم يسبق أن لحقها نشاط إنتاجي، وبعضها يتم فيه توزيع العوائد على من أسهموا في إنتاجها، وبعضها يتم من خلاله إشراك فئات معينة لظروف إنسانية خاصة، رغم عدم اشتراكهم في أي مرحلة من مراحل استكشاف الثروة أو إنتاجها.

 

  وهذا التنوع يجعلنا نفترض عدم إمكان وضع ضابط موحد عادل يحكم نظرية التوزيع، كما أن الضوابط الحاكمة في العدالة في حقول معرفية أخرى، لا تستطيع أن تعمل بذات القوة في نظرية التوزيع.

 

   ويبدو الإشكال الأكبر في نظرية التوزيع ناشئا من الاتجاهين – في نظري-، فتنوعها الذي يبعد بين حقائقها يمنع إمكان وضع قواعد موحدة تصلح لأن تكون قادرة على تحقيق العدالة فيها، كما أن ما يحقق العدالة في حقول معرفية أخرى باعتباره أساسا للعدالة لا يمكن أن يعتمد عليه لتحقيق العدالة التوزيعية.

 

  ومن أجل بيان عدم قدرة مبادئ العدالة في حقول معرفية أخرى على أن تشتغل بذات القدر في العدالة التوزيعية نأخذ مبدأ المساواة الذي يعتبر أساسا قويا في العدالة الجزائية، فمبدأ المساواة يشتغل في العدالة الجزائية بكفاءة عالية، وقد نص القرآن الكريم على ما يؤكد ذلك في آيات متعددة منها قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص" وقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها" وقوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر هذا المعنى أو تؤكده.

 

  وإذا أردنا أن نأخذ بمبدأ المساواة في نظرية التوزيع فسنصل إلى نتائج ظالمة قطعا، فلا يمكننا أن نسوي بين شخصين أحدهما بذلا جهدا كبيرا في إنتاج الثروة، وآخر لم يسهم في الإنتاج بذات القدر، أو لم يسهم أصلا في العملية الإنتاجية.

 

   ولو افترضنا أيضا إدخال مفهوم الاستحقاق الذي يوزع الثروة على كل المساهمين بحسب جهودهم، فإن الأمر قد يبدو عادلا من الناحية النظرية، غير أننا سنصل حتما إلى نتائج غير مرضية من الناحية الواقعية؛ نظرا لأننا لم نعط أهمية كبرى للاختلاف في الخصائص الإنسانية، وهو ما سينتج ظلما لعدم تساوي القدرات أصلا، فإن كنا أتحنا الفرصة لهما بالتساوي في الظاهر، فإن الواقع يشعر بأنا أتحناها لغير متساويين في القدرات، خاصة إذا أضفنا إلى ذلك أن الاستحقاق قد يعادل بالمزايا كما هو الحال عند أرسطو.

 

  يمكن أن نلحظ مما سبق أن موضوع العدالة التوزيعية من الموضوعات المهمة، وأن وضع ضوابط تحقق العدالة فيه يكاد أن يكون معضلة، ولعل ذلك كما استنتجت يعود إلى تباعد حقائق أجزائه وغياب المشترك بينها.

 

   ومع ذلك فقد حاول المفكرون والفلاسفة أن يضعوا ضوابط تحقق العدالة التوزيعية واقترحوا حلولا لهذا الإشكال، وهي حلول سنعرض أهمها مع محاولة تفكيكها وتسجيل بعض ما يعرض عليها من ملاحظات، علنا نصل بذلك إلى معالجة مقبولة لهذا الإشكال الذي لا تتناسب ضبابيته مع نماء المجتمع واستقراره.

 

( يتبع...)