على مدار الساعة

سوء التسيير والفساد في التعليم العالي: توضيح للرأي العام الوطني

4 أغسطس, 2020 - 18:43
د.أحمد ولد المصطف

يرمي هذا التوضيح إلى إنارة الرأي العام الوطني حول المبررات التي جعلتني أهتم بالبحث عن سوء التسيير والفساد داخل منظومة التعليم العالي والبحث العلمي في بلدنا ورفع خلاصات ونتائج هذا البحث إلى الجهات الرقابية الرسمية المختصة للتدقيق في مؤشرات سوء التسيير والفساد في هذا المرفق العمومي.

 

بداية، أود أن أنبه إلى أنني أُدَرِّسُ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نواكشوط العصرية منذ 2008 وحتى الآن وبشكل متواصل، أي منذ اثنتي عشرة سنة، وذلك في مجال تخصصي، أي اللسانيات التطبيقية: تدريس اللغات، الترجمة، التحرير الأكاديمي، المصطلحات، إلخ. كما أني حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس 3 ـ السوربون الجديدة سنة 2012 بتقدير "مشرف جدا" وقبل ذلك على ماستر 2 بحث من نفس الجامعة سنة 2007 بتقدير "جيد".

 

بعد حصولي على شهادة الدكتوراه، قررت العودة إلى الوطن لأقوم بواجبي كمواطن صرفت الدولة من ميزانيتها على تكوينه وتنتظر منه أن يرد لها الجميل، فبدأت بالتدريس وواصلته طيلة الفترة المبينة أعلاه وفي ظروف صعبة للغاية، منها ثلاث سنوات كأستاذ متعاون وبقية الفترة كأستاذ متعاقد براتب يعادل أقل من نصف أستاذ مُرَسّم، يحمل في كثير من الأحيان شهادة أخفض ومع تساوي ساعات التدريس، دون أن أتقاضى مرتبي في شهري أغسطس وسبتمبر من كل سنة، أو يكون لي الحق في التأمين الصحي أنا وأفراد أسرتي أو في الترقية، إلخ. شاركت سنة 2013 في مسابقة لاكتتاب أساتذة للتعليم العالي، وتنافست على مقعد أستاذ محاضر لتخصص اللسانيات لصالح كلية الآداب والعلوم الإنسانية. للأسف شابت هذه المسابقة خروقات قانونية وتنظيمية خطيرة كان من نتائجها إقصائي بشكل فج وظالم. خُضتُ منذ نهاية 2013، وبِصَمْتٍ، معركة قضائية تكللت بإنصافي من طرف الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا في نوفمبر 2016.

تصورتُ أني حصلت في النهاية على حقي. بيد أن هذا القرار القضائي، الصادر من أعلى هيئة قضائية في البلد، ورغم إعطاء الجهات الحكومية المعنية موافقتها وتعليماتها بتطبيقه وبإنصافي، لم ينفذه لحد الآن وزير التعليم العالي. رغم ذلك فإني لم أكتب عن هذا الموضوع في وسائل الإعلام قبل هذه السطور، وتركته يسلك مساره الإداري، مع أني لم أجد أي مسوغ يبرر المماطلة في تنفيذه. في أغلب الأحيان كنت أقول لنفسي، إذا كان التعليم العالي يُسيَّرُ بطريقة سليمة، فلا داعي لإثارة موضوع شخصي. لكن مع الوقت اكتشفت أن الظلم الذي وقع علي، بعدم تنفيذ القرار القضائي المذكور، ليس سوى جزء يسير من سوء تسيير وفساد شاملين طبعا التعليم العالي منذ فترة واستفحلا في السنوات الأخيرة. عندها قررت أن أبحث بعمق في طريقة تسيير هذا القطاع بشكل مفصل وشامل، وقد أثمر هذا الجهد عن الدراسة التي نشرتُ في شهر يونيو 2020 في عدة مواقع إخبارية محلية، تحت عنوان: اختلالات وتناقضات التعليم العالي في موريتانيا: تحليل ومقترحات، وتزامنا مع ذلك نشرت نسختها الفرنسية بعنوان:

Les dysfonctionnements et les incohérences de

 l’Enseignement supérieur en Mauritanie : analyse et propositions

شَخَّصَ هذا العمل مُجملَ المشاكل التي يعاني منها التعليم العالي والبحث العلمي، كما كشف، بالأرقام والمعطيات الموثقة، جوانب من سوء التسيير والفساد في هذا المرفق الحيوي، وقدم اقتراحات عديدة للتغلب على الاختلالات والمشاكل والثغرات الملاحظة.

 

وفي 18 يوليو المنصرم، نشرت مقالا مقتضبا باللغتين العربية والفرنسية، بعنوان: وضعية التعليم العالي تتطلب تدقيقا استعجاليا من قبل الهيئات الرقابية المختصة، وبالفرنسية:

La situation difficile de l’enseignement supérieur exige un audit diligent

ذلك أني كنت أعتقد، وما زلت، أن دور أي مواطن، مهما يكن موقعه ومستواه، هو إشعار الجهات الرسمية المسؤولة بخصوص أي سوء تسيير أو فساد أو نقص قد يلاحظه في مرفق عمومي معين، وتكون المسؤولية القانونية والأخلاقية أكثر جسامة عند ما يتعلق الأمر بشخص متعلم، أحرى أن يكون أستاذا جامعيا يعيش ويرى كل يوم مظاهر الفساد ومؤشراته أمام عينيه وفي القطاع الذي يُدَرِّسُ فيه.

 

كذلك من المسائل التي اطلعت عنها أثناء بحثي عن مشاكل التعليم العالي، ولم أدرجها في الدراسة المذكورة حتى لا يفهم البعض منها أن الأمر يتعلق بالتركيز على شخص بذاته، لأن الموضوع أهم من الأشخاص و الجماعات واللوبيات، أن المسؤول الأول عن هذا القطاع في السنوات الأخيرة سبق وأن اتِّهِمَ من قبل محكمة الحسابات بسوء تسيير وفساد عند ما كان مديرا عاما لمؤسسة عمومية ما بين نهاية 2005 وبداية 2010، وأدرجت وقائع ذلك في تقرير المحكمة المذكورة لسنوات 2010 ـ 2011 ـ و2012 في الصفحات 156 إلى 163 من النسخة الفرنسية للتقرير الآنف الذكر، الذي أفرج عنه للعموم في 6 ديسمبر سنة 2019 ، والمنشور على الموقع الإلكتروني للهيئة المشار إليها.

 

تأسيسا على ما سبق، وتطبيقا لأحكام القانون 014 ـ 2016 الصادر بتاريخ 15 ابريل 2016 المتعلق بمكافحة الفساد، وبالأخص المواد 14، 15 ، 16 والمادة 20 المتعلقة بـ"عدم الإبلاغ عن المخالفات" والتي تنص على أنه:

 "يعاقب بالسجن لمدة سنة واحدة (1) إلى خمس (5) سنوات وبغرامة مائتي ألف (200.000) إلى مليون (1.000.000) أوقية كل شخص، انطلاقا من وظيفته، الدائمة أو المؤقتة، يحصل له العلم بمخالفة أو عدة مخالفات منصوص عليها في هذا القانون ولا يبلغ في الوقت المناسب السلطات العمومية المختصة".

 

فقد قمت يوم 30 من شهر يوليو المنصرم بواجبي كمواطن وطلبت كتابيا من الهيئات الرقابية الرسمية المختصة القيام بتدقيق شامل في تسيير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الإعلام والاتصال، نظرا لوجود مؤشرات سوء تسيير وفساد قوية في هذا القطاع، معززة بالأدلة والوثائق وتتعلق، من بين أمور أخرى، بتبديد أو اختفاء مبالغ معتبرة من أموال دافعي الضرائب المخصصة لتمويل هذا المرفق العمومي الهام، قد تُعَدُّ بالمليارات من الأوقية.