على مدار الساعة

غزواني: الإخوان والنظام والحزبان

27 يونيو, 2020 - 02:11
محمد يحيى ولد باب أحمد - أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدستوري والحريات العامة بكليتي الحقوق والعلوم السياسية بتونس المنار وجندوبة سابقا

بالرغم من ما قد يثيره اللقاء الأخير بين الرئيس غزواني وجميل منصور من تساؤلات، وتعليقات فإنني لا أجد فيه أي مثار للجدل أو الاستغراب، بل وعلى العكس من ذلك تماما، أرى فيه سنة حميدة للتشاور بين مختلف التيارات السياسية الفاعلة على المستوى الوطني كلما كانت هناك قرارات مصيرية أو ذات أهمية معينة كما هو معمول به في أعرق الديمقراطيات الغربية التي تتخذ من حكومة الظل (المعارضة) مستشارا وشريكا في جل القضايا الكبرى، وهو تقليد أيضا دأب عليه ولد الشيخ عبد الله طيلة فترته القصيرة في السلطة.

 

فمن الطبيعي جدا أن يتشاور الرئيس مع هؤلاء الفاعلين الكبار بشأن القضايا والملفات الكبيرة الحالية مثل ملف لجنة التحقيق البرلمانية، وطريقة التعامل مع الظاهرة البرامية الشاذة، وبعص الاتفاقيات المجحفة بالبلد مع بعض الشركات الأجنبية خصوصا في مجالي الصيد والمعادن.

 

وهو تشاور سبق للرئيس غزواني أن قام به مع شخصيات أخرى مماثلة من المعارضة والموالاة ومن أنصاف الموقفين، غير أنه بالرغم من الطبيعة الاعتيادية لمثل هذا النمط من اللقاءات بين الرجلين، فإن عوامل أخرى للتقاطع الشخصي بينهما، وعوامل موضوعية عامة إقليمية ودولية، تجعل من غير المستبعد أن يمثل ذلك اللقاء لبنة أولى (أو ثانية من يدرى) لتشاور قد يتكرر ويتعزز إلى أن يفضى في النهاية إلى بناء سياسي تراكمي غير تقليدي قد ينتج عنه في النهاية تغير جذري في التحالفات أو حتى في البنية الهيكلية للخارطة السياسية الوطنية جميعا وإلى الأبد.

 

فبالنسبة لعوامل التقاطع الشخصي بين الرجلين أولا: هناك قواسم مشتركة بين الرجلين تتمثل في أن كلا منهما أبان عن مستوى معين من التبصر واستشراف المستقبل جعله أكثر انفتاحا على الآخر خارج محيطه السياسي المباشر الذي كان يمثل حاضنته الأصلية مع كل ما يترتب على ذلك من تحفظ لتلك الحاضنة الأصلية في مواجهة ذلك الانفتاح، الشيء الذي قد يؤثر إيجابا على التقارب بين الاثنين لتعويض الحماية التي كانت توفرها الحاضنة الأصلية ومقاومة الضغوط الناتجة عن تحفظاتها المذكورة.

 

وعلاوة على تلك القواسم المشتركة فإن عوامل تكامل التجربتين العسكرية للأول والمدنية للثاني من شانهما تعضيض عوامل التناسق والتآلف والتوليف لتتضاعف بذلك حظوظ الانسجام أكثر فأكثر.

 

أما بالنسبة للعوامل الموضوعية العامة الإقليمية والدولية للتأثير الإيجابي على ذلك التقارب: فتتمثل في اندثار الإيديولوجيات بصفة عامة، وفشل التجارب الإخوانية الإقليمية في الحكم، وتأثيرات الثورة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي.

 

ودون الخوض في تفاصيل تلك العوامل التي تتسع مجالاتها لتأليف كتب كثيرة أقول بكل اختصار: إن الاندثار شبه المطلق لمختلف الإيديولوجيات منذ نهاية القرن الماضي نتجت عنه قناعة راسخة لدى السياسيين والمثقفين وأشباههما مفادها أن أحسن ما اهتدى إليه الفكر البشرى في مجال الأنظمة السياسية هو فكرة التناوب السلمي على السلطة، وأن هذه الفكرة غير مرتبطة بأي ديانة ولا أي معتقد، وأنها قابلة للتطبيق في اي مجتمع مهما كانت ديانته وأيا كان مستواه الاقتصادي.

 

وهي بالتالي مطلب كل الشعوب وملاذهم لحل مختلف المشاكل لأن الأخذ بها يحقق الاستقرار الذي يمثل بدوره الضامن والحاضنة الأساسية لأية تنمية دون الحاجة لأي إيديولوجية استثنائية.

 

كما أن فشل محاولات الإخوان في الاستيلاء على السلطة إبان تجارب الربيع العربي في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وبنسب أقل من ذلك في المغرب وموريتانيا، وفشل بقائهم في السلطة في كل من الجزائر والسودان ومصر، وتغيير جلدهم في تونس كلها عوامل أوضحت للنخب القيادية في تلك التيارات - (وأحسب صاحبنا منهم) - أن الظرف لم يعد مواتيا لإقناع الشعوب بالاستمرار في تلك المسارات العبثية، خصوصا مع عولمة العلوم بجميع شعبها بما فيها العلوم الشرعية والإسلامية، وتحديات الثورة الرقمية في الإعلام، وغزو وسائل التواصل الاجتماعية لخصوصيات البيوت.

 

فكلها عوامل قد تكون ساعدت نخب تلك التيارات بضرورة المراجعة والتبصر والاستعداد أكثر لجميع الاحتمالات بما فيها تغيير النهج أو الوجهة أو هما معا، وما مواقف بومية ولد ابياه، ولد محمد موسى، وعمر الفتح، وصاحبنا اليوم من ذلك التأثر وتلك التأثيرات من القوم ببعيد.

 

وخلاصة القول إن لقاء ولد الغزواني وولد منصور يعتبر تشاورا أكثر من طبيعي في مثل هذه الظروف، خصوصا إذا ما كانت السلطة ترغب في الضغط على الأجهزة الرسمية لتواصل بالتشاور مع جميل بدل رئس الحزب عقابا لتواصل على موقفه الأخير من لحنة صندوق كورونا.

 

ولكن احتمالية تجاوز مجرد التشاور إلى ما هو أبعد من ذلك أيضا تبقى فرضية قائمة لحاجة كل من الرجلين لتبنى مواقف غير تقليدية، وتوافر الظروف الموضوعية للتقارب بينهما ولم لا التنسيق من أجل خلق كيان حزبي جديد قادر على قلب الطاولة على الجميع وقابل لاستيعاب الجميع في ثوب جديد يحقق في نفس الوقت الولاء والمصداقية وتنصهر فيه جميع القوى الحية الداعمة للغزواني أيا كانت مشاربها الأصلية.

 

ما المانع اليوم أن ينصهر الإسلاميون والناصريون بعد أن يتجاوزوا عقد التخندق التقليدي الناتج بالأساس عن مواقف شخصية بين زعامات تصارعت على السلطة وماتت مخلفة روايات يشكك كل طرف في رواية الطرف الآخر لها دون حدود واضحة المعالم للمشروع الذي يقدمه كل منهما؟

 

ما المانع أن تدخل النخب التواصلية المتحيزة اليوم عن تواصل في حزب السلطة في ظل نظام دولة عنوانها الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ويفرض دستورها أن يكون المترشح لرئاستها مسلما أصلا، ويقر أن دين الدولة والشعب هو الإسلام، وأن المصدر الأول للقانون هو الشريعة الإسلامية؟

 

ماذا يستطيع التواصليون أن يضيفوا غدا من النصوص الإسلامية إذا ما وصلوا إلى السلطة؟

 

لا شيء، إذاً، من وجهة نظري الخاصة يمنع موضوعيا من الانسجام بعد كل تلك التجارب المريرة.