على مدار الساعة

للإصلاح كلمة من وحي القرآن للتذكير في أيام رمضان (3)

3 مايو, 2020 - 23:16
بقلم الأستاذ / محمد بن البار

كلمة الإصلاح أرادت في حلقتها الثالثة هذه أن توضح لكل مسلم الاستقلالية الكاملة الدينية لكل إنسان عن كل إنسان آخر، والتي عبر عنها القرآن في كثير من آياته وبينها الرسول صلي الله عليه وسلم في كثير من توجيهاته، فلم يجعل المولي عز وجل في هذه الدنيا بين إنسانين مهما كانت قرابتهما أي رابطة دينية يمكن أن ينتفع أحدهما بها من الآخر، إلا بالتعليم والتعلم والإرشاد، فقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} واضحة لأنها جاءت حصرا في صيغ اللغة العربية، وجاءت كثير من الآيات تشرح هذه الاستقلالية شرحا يجعل كل إنسان لا علاقة له دينية إلا بمن أوجده في هذه الدنيا ومن إليه مصيره في الآخرة، ومن أرسل لإبلاغه بهذا المصير، فالمولي عز وجل أوضح في كثير من الآيات أنه جعل لكل فرد ذكرا كان أو أنثى بعد خلقه مباشرة عددا متساويا من ملائكته وكل واحد من الملائكة موكل على جزء من هذا الإنسان يحفظه ويسجل عليه عند تكليفه كل حركاته وكل ما صدر منه من قول أو فعل حتى إذا انتهت حياته يرسل إليه ملك آخر ليأتي للمولى عز وجل بروحه التي أودعها فيه عند إرادة خلقه، يقول تعالى: {إنْ كل نفس لما عليها حافظ} أي كل نفس جعل عليها ملك حافظ لها، من كل أخطار الدنيا التي لم يرد الله أن يصيبها بها، ويقول تعالى في آية أخرى أنه جعل ملكين قعيدين ثابتين أحدهما عن يمين كل شخص والآخر عن شماله يحصيان عليه ما تلفظ به من كلمة خيرا كانت أو شرا، وكذلك ما فعل من فعل خيرا كان أو شرا، وبين هذا في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أٌقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، ويقول في آية أخرى: {وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون}، فهذا الإنسان الذي لم يعلق وجود أحد منه على الآخر لا بوجوده في الدنيا ولا بمتعلقات هذا الوجود من أكل وشرب وغير ذلك من الاستقلالية الكاملة، فكذلك لم يجعل بينه وبين أي إنسان مهما كانت رابطة القربى التي بينهما أية صلة دينية إلا اجتماعهما في اسم المؤمنين.

 

ولأجل هذه الحقيقة بالذات فقد قام عليه الصلاة والسلام مبكرا بإيضاحها على الملأ كما في الحديث الصحيح أنه قام باستدعاء جميع أٌقاربه فعمهم وخصهم في توجيهاته في هذا الصدد قائلا بأن قرابته منهم لا تغني عنهم من الله شيئا، فقد نادى على بني هاشم وبني عبد المطلب حتى وصل إلي خاصته وهي ابنته الأخيرة التي عاشت معه إلى آخر حياته قائلا لها: "يا فاطمة بنت محمد اسأليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئا".

 

وبناء على وجوب النصح للمسلم قبل فوات الأوان فإني أذكر كل مسلم بآيات الله في هذا الصدد قبل أن يأتي أحدنا الموت كما قال تعالى: {استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير} وقوله تعالى: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر}.

 

وبالرجوع إلى فحوي الآيات القرآنية نجد أن هذا الموضوع وهو استقلالية كل فرد بمسؤوليته الدينية في جزائه على حسناته الشخصية ومؤاخذته على سيئاته الشخصية دون شرك في ذلك إيجابا أو سلبا لأي شخص آخر مهما كانت منزلته منه في الدنيا، كما تعبر عن ذلك الآيات بالألفاظ العمومية وهي: "كل" أو "من" أو "الاسم الموصول" الذي لا يختص به أي أحد عن آخر، يقول تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} ويقول في آية أخرى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما علمت من سوء (تجده محضرا كذلك ولكن) تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيد} بدليل قوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضر ولا يظلم ربك أحدا}.

 

ولتأكيد هذه الحقيقة أيضا فإن الله تبارك وتعالى لم يترك أي قرابة يظن أن بعضها ينفع قريبه الآخر يوم القيامة إلا وضرب بها المثل في عدم الانتفاع الديني بتلك القرابة:

أولا: ضرب مثلا بالأب الكافر والابن المؤمن وذكر أن الابن المؤمن لم يأل جهدا في نفع أبيه بالدعاء لهدايته وذلك في شأن إبراهيم عليه السلام نبيا خليلا وأبيه آزر ولم يترك إبراهيم الاستغفار لأبيه حتى بين الله له أن أباه عدو لله، فعندئذ تبرأ الولد من أبيه.

 

ثانيا: ضرب المثل أيضا بالأب نوح عليه السلام نبيا من أولي العزم فنادى ربه ليشفعه في ابنه لينجيه من الغرق، فأخبره ربه أنه عمل غير صالح على أي القراءات فهو من المغرقين.

 

ثالثا: ضرب المثل بين الزوجين الأنبياء نوح ولوط وزوجيهما فقال إن زوجية الأنبياء لهما لم تغن عنهما من الله شيئا، وأنهما داخلتين في النار والعياذ بالله.

 

رابعا: ضرب مثلا بالزوج الكافر المجرم مع الزوجة المؤمنة الصالحة، فاشتراكها معه الزوجية وما يقتضي ذلك من السكن والمعاشرة ورؤية فعل الإجرام فلم يضر إيمانها إجرامه بل نجاها الله من فرعون وعمله وبنى لها بيتا في الجنة بدليل قوله تعالى: {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه} والله أوعد كل من أحسن عملا بإجابة الدعاء فقال تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}، كما قال في استجابته لدعاء نوح عليه السلام: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون}.

 

وفي آية أخرى جمع فيها جميع القرابات الأخص فالأخص وقال إن كل واحد منهم سيفر من الآخر يقول تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}، فهل تركت هذه الآية خصوصية لأي امرئ آخر ليس له شأن يغنيه ويشغله شخصيا عن غيره يوم القيامة.

 

فالإنسان في الدنيا يمكنه أن يقول ما يقول ويستثني الأشخاص ويروي الحكايات عن المواقف في الآخرة ولكن هذه الحكايات لا تروى إلا من خارج القرآن ومن خارج أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم والعهدة على من يرويها، ولكن على من تروى له أن يمر بها ويصححها على الآيات القرآنية والحديث الصحيح ففي الحديث الصحيح أن الأنبياء عليهم السلام هم أول من يمتنع من الشفاعة عند الله قائلا كل واحد منهم بصيغة الحصر: ما علي اليوم إلا نفسي باستثناء محمد صلي الله عليه وسلم، فهل يعقل أن هناك أي شخص آخر عنده فائض من الشفاعة عن نفسه والله يقول أن الأنبياء والملائكة لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه، ومن رضي الله عنه وأدخله الجنة فإن قبول الشفاعة فيه تعني إكراما للمشفع بزيادة نعيم المشفع فيه بعد دخوله الجنة.

 

وهؤلاء الداخلون في الجنة جزاءا لعملهم كما قال تعالى: {تلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} هم الذين أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يوجه إليهم إنذاره فهم يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، فالقرآن لم يذكر أن أي إنسان بعد هذه الحياة سوف يلتقي مع شخص آخر إلا في الجنة بعد أن يكون الجميع صالحا هو في نفسه وبذلك يكون الجميع صالحا للقيا في الجنة يقول تعالى: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (مخاطبين لهم جميعا الآباء والأبناء والأزواج ذكورا وإناثا) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وفي آية أخري يقول تعالى: {والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم} ويقول هنا بعض التفاسير للتفلسف في وجود معني كلمة "ألحقنا بهم ذرياتهم" يقول واتبعتهم ذريتهم بإيمان ناقص ألحقنا بهم ذرياتهم، فما هو الفرق بين الفعل والمصدر؟ فالنحاة اختلفوا أيهم الأصل بمعني أن الآباء: "ءامنوا" أي فعلوا الإيمان، ولكن الأبناء اتبعوهم بإيمان بالمصدر المطلق الذي هو أًصل الفعل على قول، ولكن الله أكرم الجميع على إيمانهم بأن جعلهم في مكان واحد على سرر متقابلين كما قال تعالى في آية أخرى تعد من الإكرام وجود أهل الجنة على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين.

 

وأخيرا فهذه الحلقة تحتاج إلي زيادة إيضاح وسيكون ذلك في الحلقة الرابعة بحول الله.