على مدار الساعة

موريتانيا ليست ملكا لأحد  (ج: 1)

7 أبريل, 2017 - 01:32
محمد فال ولد هنضيّ - رئيس ميثاق لحراطين

لم تزل بلادنا، وهي على عتبة الذكرى السابعة والخمسين لحصولها على الاستقلال الوطني، تعاني بشكل مخيف وسط متلازمة من الأزمات المتعددة الأبعاد التي تعجز عن فك طلاسمها على ما يبدو.

 

عادة ما تصبح الدول راشدة في هذه السن؛ ولكن دولتنا دخلت هذه المرحلة العمرية في جو خيّمَ فيه الشك على القلوب والعقول كما أن أحلام الأمة في الاستقرار والسكينة، في العدل والمساواة، في الوحدة والوئام الوطنيين، ما فتئت كلها تخبو وتتقلص وتذبل يوما بعد يوم.

 

إن هذه الحصيلة المحزنة والمنذرة بالخطر لما آلت إليه بلادنا من نزوع مزمن إلى ارتهان للمستقبل، ليست بالضرورة ناتجة عن تهديدات ذاتية. إنما نتجت هذه التهديدات بفعل المعالجات غير الموفقة لمطالب مشروعة والتي اتسمت بالانحياز أو الازدراء أحيانا وبالتسلط أو العجرفة أحايين أخرى.

 

فتـَـحَ جيل الاستقلال، الذي أنتمي إليه، أعينه في أواسط السبعينات على يقين راسخ بتطور أكيد نحو غد أفضل؛ يعززه في ذلك الشعورُ بعدم انحياز الدولة ويحفزه المزاج العام لهذه السنوات التي اتسمت بإشاعة الأمل بين عموم الناس. وبغض النظر عن تهافت وإكراهات المرحلة، كان المناخ العام مفعما بالتفاؤل ومنصبا نحو الثقة في المستقبل. ذلك المستقبل الموعود الذي افترضناه حاملا من التقدم والرقي الاجتماعيين ما هو كفيل بتذويب واضمحلال كافة مظاهر البؤس والتناقضات الاجتماعية والعيوب الأخرى تمهيدا لتجاوزها في ظرف وجيز. كنا من السذاجة بمكان بحيث أننا اعتقدنا أنه لا التباطؤ ولا عاديات الزمن ولا إرث الماضي، قادرة كلها مجتمعة على أن تؤخر، لأكثر من جيل أو جيلين، هذا الميعاد المُخـَـلّص، والمضروب مع التاريخ الواقع بالضرورة في شرك دأبه المعهود.

 

هذه الصورة لموريتانيا الماضي، المتسمة بالبساطة والزهد، والملتقطة في زمان ما (بحر عقد السبعينات) وفي مكان ما (مدينة المذرذره)، والتي حُفرت في لا وعي التلميذ الذي كنت حينها، في منتصف الطريق بين الطفولة والمراهقة؛ لا يمكن بالتأكيد أن تنطبق هذه الصورة على كل نقطة في بلادنا الشاسعة أو أن يتم إضفاؤها بصيغة العموم على ربوع حوزتنا الترابية الواسعة.

 

ولكنني أتجرأ على الاستقراء التالي: إذا كان هذا اليقين القوي قد ترسّخ، على نحو طبيعي وعميق، في مخيلة ذهني اليافع، فلا شك أن بعض أبناء الجيل الذي انتمي إليه، ممن أحسّوا وهم أطفالا، بشيء من التكافؤ في الفرص بدفع من مؤسسات الجمهورية الأولى، لا شك أنه تمَلـّـكتهم مشاعر مماثلة أو ذات صلة، مع الأخذ بعين الاعتبار لعوامل التأثير الأخرى الخاصة بوسط كل منهم.

 

إن أحلام و تطلعات موريتانيا تلك، المتجهة نحو الحداثة – المحدودة قطعا والمقتصرة حصرا على الدوائر الحضرية والمتمدرسة حينئذ – والتي نعتبرها اليوم في حكم الميتة والمندثرة، قد حلت مكانها في زماننا هذا ـ وبفارق أربعين سنة ـ موريتانيا انعدام المساواة غير المحدود والمدمر لأسس الأخوة بقدر ما تتسع الهوة؛ وموريتانيا التي توفر التربة الصالحة لتنامي الخصوصيات المظفرة التي تسلك خطوط الفصل أو التقسيم الإثني والعرقي والقبلي والسوسيولوجي.

 

إن ظاهرة تنامي الخصوصيات المدفوعة بغياب العدالة، يشُد أزرها تفاقم التوجهات القومية الضيقة والعداوات الأيديولوجية. لكنها تتغذى أساسا وتستمد ماء حياتها من ثديَيْ دولة النهب الريعية ذات الهياكل الهشة والمهلهلة، المليئة بالمتناقضات الداخلية والمسكونة حتى النخاع بهوس الأفكار والأحكام المسبقة والممارسات والمسلكيات البدوية الجلفة.

 

 

يعلمنا التاريخ أن تفكك الدول الحديثة يبدأ دائما بتدهور الروابط الاجتماعية. تشهد بلادنا، منذ فترة، تدهورا مضطردا لتلك الروابط لدرجة أننا نشعر، بمرارة متزايدة، أن مختلف مكوناتنا الوطنية يتكالب بعضها على البعض وينظر كل منها إلى الآخر بتوجّس وحذر.

 

مَرَدُّ هذا التشنج يعود إلى معضل العدالة الاجتماعية الشائك المطروح باستمرار على نحو يزداد حدة. اقتصر عمل الحكومات المتعاقبة حتى الآن، على ترك الحبل على الغارب دون بذل أدنى مجهود لإعادة بناء الجسور والروابط التي تآكلت كثيرا. فتركُ الحبل على الغارب وعدم القيام بأي شيء بغية كبح جماح هذا التوجه أو حتى عكس مجراه، يعني بوضوح تشجيع المُضي قــُـدُمًا في إفساد اللحمة الاجتماعية المهترئة أصلا، ومن ثم تنامي مخاطر التهديدات الناتجة عن غياب العدالة.

 

وساهمت السلطات العمومية بهذا الموقف، في إبقاء النار مستعرة تحت الرماد.

يعلم الجميع أنه منذ عشرات السنين، يعبث منطق التخندق، الصامت والعتيد، بما تبقى من النسيج الهش الذي لا زال يربط بين مختلف أجزاء المجتمع الموريتاني. هذه الخلفية، المرتكزة على الشعور بانعدام المساواة واللامبالاة بتلبية بعض المطالب ذات الطابع الاجتماعي والثقافي، أدت في نهاية المطاف إلى تلويث المناخ الاجتماعي وإنتاج شرخ جذري بداخل ما يعرف عادة تحت تسمية "مجتمع البيظان" أو المجتمع الناطق بالحسانية.

 

من جهة أخرى، تجاوز الحيف الاجتماعي داخل هذه المجموعة حدود المقبول والمسموح به منذ أمد بعيد؛ ومع مرور الزمن، انهارت أسس الأخوة بقدر ما اتسعت الهوة الاقتصادية والثقافية. ومن جهة أخرى، فإن النظام، المتعصب والجامد، ينحو إلى إدامة الأنماط والسلوكيات التقليدية المهيمنة باعتبارها مسلمات مجتمعية، بدل العمل على تجسيد مجتمع المواطنة. بمنطق الدول الحديثة، يسمى هذا الخيار خيار السباحة عكس التيار. ولم نتأخر كثيرا في حصاد ثمار ـ أو بالأحرى أشواك ـ ما زرعنا.

 

أدى إرساء دولة النهب الريعية إلى انعكاسات مدمرة، تمثلت في أن الوظائف والمؤسسات العمومية تحولت إلى مثيلاتها من الإقطاعيات الصغيرة، المسخرة لخدمة هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المشاركة في "لعبة اليانصيب" التي تجري على المقياس الوطني. ويذكرنا الواقع الماثل أمامنا كل يوم بأننا "انطلقنا انطلاقة سيئة" كما يقول ريني ديمون.

 

يشعرنا التوتر الخافت على الرغم من أنه محسوس كفاية، بوجود كهربة في الجو عند زاوية كل شارع. إن الضغائن وغريزة التدمير الذاتي لهؤلاء المقصيين المعذبين في الأرض، تجعلنا نخشى من أن الانقسام المستتر، والذي بدأ يطفو على السطح منذ بعض الوقت، خلّف خسائر لا تخطر على بال، أكثر عمقا وضررا مما كنا نتصور. فحالة الفقر المدقع التي تعاني منها الأجيال المتتالية من لحراطين، كان من المفروض أن تثير استنكار البلد بأكمله. تُـثْـبت لنا الأحداث اليومية والواقع المعاش أن العكس هو ما يحدث تماما. فالدولة الموريتانية لم تقتصر على اللامبالاة وانعدام الشعور اتجاه حالة الضنك التي تعيشها مكونة أساسية من شعبها، تنحصر فيها نسبة من 80 إلى 90% من المواطنين الفقراء والأميين؛ بل تُمعن في جعلها تغوص أكثر فأكثر. الإقصاء الممنهج لهذه الفئة من كافة دوائر الإدارة والمؤسسات العمومية وشبه العمومية وضآلة التمثيل السياسي لها مع انقراض فرص التمدرس لأبنائها زيادة على النزعة الحديثة إلى الحد من حضورها حتى على مستوى وكلاء الدولة الصغار، تشكل كلها بوادر ومؤشرات لإرساء حالة تمييز فعلية، تشمل كافة انساق الدولة المتسلسلة. ومن البديهي أن هذه الحالة من التهميش، لم يكن لها أن تكون دون أن تقف وراءها إرادة سياسية ماكرة...

 

وللأسف، نلاحظ أن ديمومة تهميش لحراطين ليست ناتجة عن غياب الإرادة سياسية فحسب، بل هي خيار واعي، متعمّد وثابت لدى حكام موريتانيا المتتاليين.

 

لا محالة، ستنهض كتائب الخاسرين في معركة توزيع الثروات الوطنية - لحراطين أساسا - وسيقفون بلا يأس وقفة رجل واحد ضد نظام مرد على نهبهم واستغلالهم، وضد نخبة ما فتئت تبرمج استدامة إقصائهم. إن رغبة أولئك الذين يحتلون قمة الهرم الاجتماعي في المحافظة، بأي ثمن، على ثروتهم ومكانتهم، يجب أن لا تنسينا أنه من أجل خلاصنا سيكون على عقلنا الجمعي أن يتسامى ويربأ، بالضرورة، عن كل الأنانيات الفردية.

 

إننا نعيش زمانا استثنائيا، لا يتوقف فيه التاريخ عن التأتأة مُبديا لنا، كل يوم وبجرعات مكثفة، أن الدعائم التي انبنت عليها دولا مثل موريتانيا لم تكن في الواقع إلا قنابل موقوتة لن تلبث حتى تفجر حبل القران العسكري القبلي الأشعث الأغبر الذي خصخص لحسابه الخاص كل مزايا الدولة ضاربا عرض الحائط بشرائح عريضة من شعبنا. هل كان المؤرخ آرنولد جوزيف اتوينبي يفكر في موريتانيا عندما كتب: "كلما كان الانسداد أطول (زمنيا)، كلما كان الضغط أقوى؛ كلما كان الضغط أقوى كلما كانت الصيغة التي تتحرر بها القوى الحبيسة أعنف في نهاية المطاف"؟. لنأمل أننا لم نصل بعد ولن نصل أبدا إلى هذا الحد. ولكن، يجب أن لا نخدع أنفسنا: لقد أكملنا صنع الخلطة المتفجرة التي تحمل في طياتها كل العناصر التي تجعل من موريتانيا اليوم بلدا يموت من الداخل، وعليه أن يواجه، في ذات الوقت، جملة من التحديات الخارجية.

 

إن منطق الريبة والحذر، أو بالأخرى انعدام الثقة بين المكونات الوطنية، العائدةِ جذورُه إلى نهاية السبعينات، لم تزل وتيرته في تصاعد مستمر. فإحباطات وتأوّهات واستنجادات الشرائح المحرومة، المقصية والمطحونة بفعل استدامةِ الطبقيةٍ والتراتبية الاجتماعية البالية والتي تم التعبير عنها على كافة الأصعدة منذ أمد بعيد؛ يبدو أنها لم تجد أي صدى أو أذن صاغية على مستوى الطبقة السياسية عموما وعلى وجه الخصوص على مستوى الطبقة الحاكمة. من البديهي أن المهمشين ينفصلون تلقائيا عن كل تجمع اجتماعي لا يجدون فيه أنفسهم، وليسوا معنيين في شيء بتماسكه أو وئامه. لا يمكننا إذن إعادة إدماجهم في الجسم الاجتماعي دون أن نمنحهم الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية. إن غالبية الشعب الموريتاني مكونة من الفقراء والمقصيين. هذه الأغلبية (التي تتشكل أساسا من لحراطين) تعيش عند أبواب المجتمع دون أن تلج إليه. إنها تحتاج إلى الحد الأدنى من الوسائل المادية والحقوق لتضمن لنفسها بعض الاستقلالية الاجتماعية، ولتحوز على شكل من أشكال المواطنة، وبالتالي تساهم، إلى جانب مثيلاتها، في مجريات الحياة التي لا يُنبغي أن يقصى منها أحد. إن إرساء دولة الرعاية الاجتماعية ،العادلة والتي تقف على مسافة متساوية من الجميع، يمثل خيارا لا مناص منه من أجل الوصول إلى الهدف المنشود.

 

إن احترامنا لبعضنا البعض والمشاركة الفعلية للجميع تعتبر ركيزتا العقد الاجتماعي الذي بدونه لن يكون للمجموعة الوطنية أي معنى.

 

لا يجب كذالك أن نهمل الجوانب المعنوية التي تمثل أهمية قصوى في تنمية الأمم، لا تقل عن الاقتصاد أو السياسة أو الزخم الثقافي. ومع ذلك، لن يكون مجديا الاقتصار فقط على إشراك الطبقات المسحوقة في بعض الجوانب الاقتصادية والسياسية، بل الاستعداد كذلك لتقديم بعض التنازلات في الجوانب الملازمة لها: إعادة الاعتبار والكرامة اللتان لا يمكن أن تظلا خاصيتان محتكرتان للبعض...

 

لقد آن الأوان إذا لتلمس طريقنا نحو المصالحة الضرورية... لا يمكن أن يحصل ذلك إلا عندما نعي أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية ليست ملكا لأحد.

 

إننا جميعا، وبصفات ومستويات مختلفة، شركاء في بنائها والذود عن حوزتها كما أننا أيضا شركاء في صنعها وشد عضدها.

 

أنْ نجعل أطفالنا يرثون وضعية حبلى بالمخاطر و التهديدات التي صنعناها نحن لا هم، ستكون الطريقة الأكثر وقاحة لارتكاب جرم إبادة الأطفال.

 

و مع ذلك، فالبدائل بسيطة، ناجعة وتخدم مصلحة الجميع. لنتجاوز الهياكل والأنماط الاجتماعية التقليدية بلباقة وبساطة، في إطار الدولة الوطنية دون التفريط لا في الماضي ولا في المستقبل؛ عن طريق إفساح المجال أمام تبوء لحراطين للمكانة اللائقة بهم، وهم من كان لهم دائما قسط لا يستهان به من الدور الريادي في صنع تاريخ موريتانيا دون يلجوا إليه.

 

من أجل أن نفلح جميعا في تحقيق هذا الانتقال المجتمعي الصعب، الذي اعتقد أن الغالبية العظمى من الموريتانيين يتمنونه من أعماق أنفسهم، اطلب من أصحاب النوايا الحسنة أن لا يقفوا متفرجين أو مكتوفي الأيدي لأننا لا يمكننا الاستغناء عن أي واحد منهم.

 

أتوجه كذلك بهذا النداء إلى المواطنين البسطاء والكوادر الوطنيين و أخص من بين الجميع، ذوو الأنساب المختلطة للعب دور الجسور أو القاطرات لهذا التحول المنشود.