على مدار الساعة

هرمنا الاجتماعي... بنيات في مواجهة بعضها

18 مارس, 2017 - 02:52
سعداني بنت خيطور

أستعير من علماء السوسيولوجيا المصطلح الاجتماعي المعروف لأوظفه في تناولي هذا لدلالات سيلاحظ القارئ الكريم فيما بعد أنها تختلف باختلاف السياق الذي تذكر فيه فتارة أستخدمها بمعنى المكونة وتارة أوظفها توظيفا يحمل في طياته نوعا من الحديث عن البناء الاجتماعي وتارة أستخدمه للحديث عن الشريحة.

  

الأزمة الاجتماعية الحادة التي نعاني منها كمجتمع والتي بدأت تطفو على السطح بشكل أقوى وأوضح والتي بدأت تنعكس سلبا وتأخذ طريقها في التجلي في مظاهر أخرى ليس أقلها خطورة التوتر ـ إن لم أقل الانسداد ـ السياسي الذي يتجاهل الكثير من المتابعين وقادة الرأي ضلوع الوضع الاجتماعي في المرحلة التي وصل إليها، في الحقيقة أزمة حقيقية باتت تستدعي منا التأمل وتلمس الحلول بشكل أسرع مما عليه وتيرة التفكير الجمعوي الآن قبل فوات الأوان علينا جميعا.

 

وأي تفكير في الحلول لم يأخذ في الحسبان وعلى محمل الجد مسألة التنوع والتزامن الحاصل لجميع المشاكل التي يعانيها الجسم الاجتماعي ككل وأعني بالتنوع هنا التعدد من حيث ماهية وطبيعة المشكلة أو القضية وبالتزامن التموقع على الخط الزمني الواحد ـ إن صح التعبير ـ فإن ذلك الحل أو التفكير سيظل قاصرا وعاجزا عن تقديم حل شامل لمجمل المشاكل المطروحة وبالتالي لن يكون بمقدوره وصف علاج يريح الجسم المثخن بالجراح من تبعات الآلام المختلفة الوقع والمواقع والتي تتحد في لحظة الشعور بالألم رغم تباينها في بعض التفاصيل، فنحن كما هو معروف مجتمع متعدد العرقيات والمكونات بحيث يمكن تقسيم الهرم الاجتماعي عندنا وطبيعة تركيبتنا الاجتماعية والانقسام الحاصل فيها إلى نوعين من الانقسامات انقسام عمودي يقسم المجتمع إلى مكونتين رئيسيتين {البيظان والزنوج} يقوم الصراع بينهما على مبدأ التلاغي حيث تعمل كل من المكونتين على تحقيق الإلغاء الفعلي للأخرى إن أمكن أو على الأقل على حصرها في زاوية ضيقة تضعف الحق في سياسة وإدارة أمر ومستقبل البلد، كما تحرص كل من المكونتين على جعل الأخرى أقلية في بلدها وهنا تجدر الإشارة إلى أنه وإن كان يلمس بالفعل في خطابات بعض الشباب وحتى القيادات الفاعلة في قضية الزنوج نوعا من الحرص على تحويل مكونة "البيظان" إلى أقلية ـ قد لا تأمن الاضطهاد في بلدها بالضرورة ـ فإن الحرص على إلغاء المكون الزنجي ونفيه من خارطة الفاعلية وبذل الجهد في حرمانه من لعب دوره الطبيعي في إدارة البلد ووضع سياساته ورسم مستقبله يبقى هو البعد الأخطر والأقوى حضورا في فعل التلاغي المذكور خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الواقع المعاش والذي لا يزال يدعم بل ويكرس مسألة بيظنة الدولة الموريتانية باستثناء بعض مظاهر الإشراك الصوري ـ في أغلب حالاته ـ لمكونة "الزنوج".

 

وانقسام أفقي يقسم كل من المكونتين السالفتين إلى مجموعة مكونات صغيرة هي الطبقات أو الشرائح أو الفئات تتوزع من حيث المكانة في الهرم الاجتماعي في مواقع موروثة يعكس كل موقع فيها الحالة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية لتلك المكونة فالموقع في الهرم هو من يحدد لاحقا طبيعة المكانة الاجتماعية وملامح الوضعية الاقتصادية وحتى السياسية لكل بنية على حده فنحن مجتمع لا تزال المكانة الموروثة فيه فاعلة بشكل يخولها توجيه أو على الأقل وضع ملامح الوضعية الاقتصادية والسياسية وحتى الرمزية للفرد، لكن الذي يبعث على المزيد من القلق هو كون الانقسامين الأفقي والعمودي الذين أضعفا الكيان الاجتماعي العام بحيث أصبح بالكاد يتوفر على مشترك فعال تسببا أيضا في جعل منا مجتمع بنياته في مواجهة بعضها البعض فعلى مستوى الانقسام العمودي نجد البيظان في مواجهة الزنوج والزنوج في مواجهة البيظان وكل من المكونتين ترى مستقبلها مربوط بتقويض الأخرى والتأسيس لتقزيمها وحرمانها من التمتع بحقوقها المادية والمعنوية وحتى "المدنية" وعلى مستوى الانقسام الأفقي نجد أن المكونة الواحدة تعاني نفس المشكل وتعيش نفس حالة التلاغي لكن على المستوى الداخلي ومن ممارسة من طرف يعتبر نفسه الأعلى في الهرم الاجتماعي للمكونة الواحدة فتجد أن الطبقات الأرستقراطية في كل من مكونتي البيظان والزنوج تعمل على الإلغاء الفعلي لبقية الطبقات والشرائح الأخرى المهمشة  التي تكون إلى جانبها المكونة العامة لكنها تريد فقط أن تظل تلك الشرائح المهمشة مجرد تابعة لها ومباركة لقراراتها الأحادية وخاصة في ما يتعلق بمسألة الغبن في توزيع السلطة والثروة والحصول على الحق الطبيعي في الولوج للفرص بالإضافة للتسليم في مجال الاحتقار والدونية الاجتماعية بشكل عام.

 

وفي مقابل هذه الأحادية والغبن في مجال السلطة والثروة نجد بوادر مقاومة لاستمرار حالة التلاغي الداخلي الذي أنتج نوعا من التباين الحاد في مجال السلطة والثروة بفعل المكانة الموروثة ـ التي لم تعرف حالة مقاومة حقيقية في البداية حتى استفحلت ـ ثم بفعل الرغبة الجامحة في استمرار الوضع القائم على ما هو عليه بما يتطلبه من العمل في مجالات مختلفة ووفق طرق عدة لوأد حالة المقاومة الوليدة لدى الطبقات المهمشة داخل المكونة الواحدة هذا من جهة ومن جهة أخرى حالة المطاردة الداخلية التي تعيشها المكونة الواحدة وهنا وإن كانت حالة المطاردة الداخلية تشكل هما حقيقيا لكل من المكونتين الرئيسيتين إلا أنها تنطبق بشكل أدق على مكونة البيظان لسببين أساسيين:

 

الأول: حالة الانخلاع المؤلم التي عرفتها شريحة لحراطين بشكل عام من مكونة البيظان التي كانت تعول في البعد الديمغرافي على لحراطين في إبعاد مكونة الزنوج عن السلطة والكبت الإستراتيجي لطموحها في هذا المجال لذلك لا مناص من الاستفادة من هذا الخطأ الإستراتيجي الفادح والعمل على ضمان عدم تكراره مع شريحة لمعلمين أو غيرها من الشرائح المهمشة داخل مكونة البيظان.

 

أما الثاني فاستنساخ نفس حالة التلاغي الخارجية على المستوى الداخلي يجعل من المكونة الواحدة وخاصة مكونة البيظان جسم هش مترهل مثحن بالآلام الداخلية التي تجعله غير مؤهل للعب الدورالمنوط به في ساحة التلاغي الخارجية بل وأكثر من ذلك معرض لتكرار تجربة الانخلاع العضوي وهذه المرة مع المسمار الأخير في جسم وحدة البيظان {لمعلمين} مما جعل القوى المتحكمة لاتخاذ المرهمات الموضعية والمسكنات الآنية كحلول تسكينية تستخدمها كل من المكونتين الرئيسيتين بهدف إحلال نوع من التهدئة الداخلية حتى تتسنى القدرة على المواجهة الخارجية، هذا أساسا بالنسبة لمكونة البيظان أما مكونة الزنوج فيتم التلاغي داخلها على نحو يختلف شيئا ما عن الطريقة التي تحدث في مكونة البيظان حيث أن طبيعية التلاغي داخل مكونة الزنوج أقرب هي إلى حالة استعباد مشرعة منها إلى حالة تلاغي وذلك ربما بفعل الانصياع شبه المسلم له من طرف المهمشين قبل الأوروستقراطيين أصحاب الفعل الأصلي ...

 

كلها مجالات للصراع داخلية وخارجية وبؤر توتر أو غليان ـ على الأصح ـ أفقية وعمودية تجعل الهرم الاجتماعي العام عبارة عن بنيات ومكونات في مواجهة بعضها البعض تقترب شيئا فشيئا من مرحلة التآكل ـ لا قدر الله ـ وهي مرحلة نعيشها ووضعية نراوحها كمجتمع تتطلب من قادة الرأي وصناع القرار فينا التعقل والأخذ بعين الاعتبار العمل الجاد وليس الصوري على إيجاد حل شامل يشمل كل المشاكل الأفقية والعمودية على حد سواء ويستصحب علاجات لتجلياتها وآثارها العميقة دون إرجاء لأي منها على حساب الأخرى كما يجب كذلك الانطلاق من منطلق حفظ الموجود أولى من طلب المفقود فالحفاظ على موريتانيا متعددة الأعراق والشرائح أولى من البحث عن موريتانيا المتمحضة لمكونة أو طبقة أو عرق بعينه لأن ذلك لن يكون بدون دفع ثمن باهظ قد يضيع فيه الحلم نفسه.

 

بل إن الأولى والممكن أيضا هو الاعتراف بمبدأ التعددية العرقية والشرائحية في موريتانيا والعمل على بناء بلد ومجتمع قوي ينظر لتعدده العرقي والشرائحي كواقع لامناص من التعامل معه ومع التنوع الثقافي كأحد أغنى مصادر ثرائه وإلا فالتمزق والتآكل هو مصير هذا المجتمع لا سمح الله.