على مدار الساعة

إلى رئيس الجمهورية...

8 أغسطس, 2019 - 20:15
الهادي محمد الحافظ النحوي

أيها الرئيس أبعث إليكم بهذه الرسالة التي أعلم أنكم قد لا تجدون وقتا لقراءتها نظرا لضغط الانشغالات من جهة ولمكانة مرسلها من جهة أخرى، فهو مواطن من جملة البسطاء الذين يعيشون هموم هذا الوطن فيتفاعلون معها حزنا وفرحا، فلا يجدون من باب إلى من يسوسون أمرهم سوى أن يأووا إلى ركن الحرف ليجعلوا منه جسرا تعبر عليه هواجسهم وأفكارهم نحو مجلسكم في ديوان القصر.

 

أيها الرئيس في البداية لتعلموا أن كاتب هذه الرسالة على مذهب فضيل بن عياض رحمه الله حين قال:

(لو أنَّ لي دعوةً مستجابةً ما جعلتُها إلاَّ في السلطان.) قيل له: يا أبا عليٍّ فسِّر لنا هذا.

قال: (إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العبادُ والبلاد.)

لأقول بذلك أنني لا أكتب من رحم الثنائية المعروفة "الموالاة والمعارضة" لكي لا ينتظر من هذه الأحرف ما اعتيد أن يخرج من ثنايا أسطر كُتاب تلك الثنائية، بل هي أحرف مواطن بسيط ينظر ويراقب المشهد الوطني ويحمل هم وطنه ويحلم أن يرى من أبناء بلده من يحمل مشعل الازدهار والتقدم والالتحاق بركب النهضة.

 

أيها الرئيس لتعلموا أن كرسي الرئاسة سبب في أحد أمرين:

إما أن يخلد التاريخ صاحبه حين يجتهد ويعدل في حكمه، أو يجانب العدل فيحمل صاحبه وزر كل تقصير صدر في فترته فيكون الذم في الدنيا وعسر الحساب في الأخرى، فنسأل الله لكم أن يعينكم على الأولى ويبعد عنكم الأخيرة..

 

أيها الرئيس أعلم وأقدر مدى صعوبة المهمة فحالكم اليوم مع ما أوصلت إليه التراكمية وطننا الحبيب أشبه ما يكون بالطبيب الواقف على مريض أقعده مرض تعددت وتداخلت به أمراض يحتاج كل واحد منها عناية خاصة!

 

فيكاد الطبيب الحاذق والناظر الفاحص لا يستطيع الوصول إلى رأس الخيط وبداية الطريق الموصل إلى عتبة الإصلاح لتعقيد الحالة وتشابك العوامل المسببة لها، ولكن بالحزم والصدق والاستعانة بالله ثم بأهل الخبرة في كل مجال يتلاشى المستحيل وينهض الوطن كما نهضت أوطان كانت أسوأ منا وضعا وأقل موارد.

كل ما يمكن لمواطن مثلي تقديمه لكم هو مجرد اقتراحات فيما أعتبره بعض أسباب تفاقم مرضنا تحتاج تدخلا عاجلا وسياسة حازمة عساكم تخرجون وطننا وشعبنا من تبعات ظواهر تفاقمت في الآونة الأخيرة.

 

أولى تلك الاقتراحات هي:

- القضاء على التملق:

سيادة الرئيس لو تتبعتم سير الأمراء عبر التاريخ ستجدون أن أكثرهم عدلا هو أكثرهم حزما أمام المتملقين، فالتملق يغيب الحقائق ويفتح الباب أمام السوقة وضعاف الإيمان والنفوس ليتسللوا من خلاله إلى سدة الحكم، مما يؤدي إلى تغييب الصلحاء من الناصحين وذوي الكفاءة وأهل الصدق فيكون الحصاد بطانة سوء أعاذنا الله.

 

وقد تنامت هذه الظاهرة إبان الأحكام الأخيرة بشكل كبير حتى تصدرت السوقة المشهد، وجعل منها بعض سوقة السوقة مصدرا للعيش، بل جعلتها الغالبية من نخب وسياسيين وحتى أفاضل عملة لنيل الوطر والوصول إلى المكاسب الخاصة والعامة، حين وصلت في العرف السياسي إلى ما يشبه شرط صحة للوصول إلى الحقوق.

 

كان سيدنا الفاروق رضي الله عنه يقول لمن مدحه بعد ولاية الأمر:

(لا تهلكني وتهلك نفسك)

كما وصف العلاج من التملق حين أسس للعلاقة المثلى بين الأمير وبطانته بقوله:

(لا خير فينا إن لم نقبلها ولا خير فيكم إن لم تقولوها)

كذلك مما يروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال لعمرو بن مهاجر:

( إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني ثم قل لي ماذا تصنع)

 

مما يجعل الخروج من مأزق المتملقين ضرورة لا غنى عنها لكل مريد للإصلاح، ولن يكون ذلك إلا بالحزم معهم وسن قوانين صارمة تعاقب كل من حاول أن يمارس التملق، وكخطوات عملية يمكن إجراء ما يلي:

-إصدار أوامر للإعلام الرسمي بالتركيز على البرامج وتقديم الحلول دون التطبيل للحكومة والرئيس.

-تغريم كل من تملق للرئيس أو الحكومة على شاشات الفضائيات غرامة مالية معتبرة، وإبعادهم عن سدة الحكم تماما.

-إنشاء شرطة خاصة بمحاربة ظاهرة التملق العلني "الزيدنة" في المناسبات العامة "كالتعيينات، والأنشطة السياسية، ومؤتمرات الحكومة" واعتقاله على الفور وزجره.

-تجريم ظاهرة تقديم التهاني لمن تم تعيينهم من وزراء ومدراء ومصادرة ما يقدم لهم من هبات إبل وغيرها، فقد قدم أحدهم لعمر بن عبد العزيز رحمه الله هدية بعد توليه أمر الخلافة فردها، فقال صاحب الهدية:

لقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية.

فقال له:

(هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، ولنا رشوة!)

لأن كل ما يقدم بعد التعيين المراد منه الوصول إلى مكسب من مكاسب الدولة قد يكون حقا عاما!

 

أما ثانية النقاط المستعجلة فهي:

-محاربة التعيين بالوساطة:

فإن كان التملق ساهم في تآكل بنيتنا الأخلاقية والسياسية، فإن سوسة بنيتنا الإدارية هي التعيين بالوساطة.

فكم من شركة ومؤسسة من مؤسسات البلد كانت تسير على الطريق الصحيح تواكب العصر وتقاوم التحديات حتى ابتلاها الحاكم بفرد تسلل اسمه من منفذ الطريق المعهود:

فلان كلم في أمره فلانا حتى وصل السند إلى نافذ في الدولة فكتب الاسم على رأس المؤسسة لأجل إرضاء فلان...

فما نظروا من سيرة المدير الجديد الذاتية سوى الاسم واسم الوسيط، وما فكروا في حال المؤسسة وكيف ستكون؟

وما تذكروا أن الوطن مجموعة مؤسسات، ستسير على نفس الطريق:

ليتسلم المدير الجديد زمام أمر مؤسسة لا يعرف عنها سوى الاسم، فيبدأ بتعيين من شاء ويفعّل خدمة التعالي لكي لا يكتشف أهل الخبرة في المؤسسة غربته عن عالمهم، وعما قليل ينجح في صناعة طاقم متملقين لا هم لهم سوى:

خرج المدير...عاد المدير...!

فتتحول المؤسسة ذات الطابع الفني إلى خلية نحل من أقارب المدير الجديد، وهكذا يبدأ مسار الانهيار..!

 

هكذا سيادة الرئيس تحولت الدولة بفعل جرثومة "التعيين العشوائي" إلى دولة مؤسسات عاجزة يأكل التملق من ظاهرها ويفتك التعيين العشوائي بجوهرها.

لذا فإن ما أقترح عليكم سيادة الرئيس في هذا الصدد:

-أن تسعوا بجد في محاربة التعيين بهذا الأسلوب، وتجرموه وتزجروا كل من يكلمكم في أمر قريب له يريد له تعينا.

-أن تصدروا قرارا بإجبارية خوض امتحان لكل من قدم ملفه لمنصب معين، يكون الامتحان في صميم عمل المؤسسة.

-أن تستقطبوا كفاءات البلد وهي كثيرة ولله الحمد، وتعتمدوا عليها مع طلبها التكوين لأسابيع على عمل المؤسسات التي ستتولى أمرها.

-أن تطلبوا من الوزراء ومديري المؤسسات القيام بتبادل طواقم مؤسساتهم، لكي تفكوا بذلك عُقد نفاثات الفساد التي تشكلت عبر الزمن في مؤسساتنا الوطنية فصارت جسدا داخل جسد..

والسلام..

 

سأكتفي بهذا القدر إلى فرصة أخرى بإذن الله، وقبل أن أختم أذكركم وأقول لكم أن مدار كل إصلاح يرجع إلى ما عليه قلب الحاكم فراقبوا الله بقلبكم يصلح لكم رعيتكم، واستعينوا بالبطانة الصالحة.

 

أسأل الله لكم التوفيق وأن يصلح حالنا وحال أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم