على مدار الساعة

هل دفعنا يوما ثمنا للديمقراطية؟

12 مارس, 2017 - 18:03
الولي ولد سيدي هيبة ـ كاتب صحفي

"المستقبل" حاضر مجهول و "الأمل" فكرة سياسية نبيلة

نظم "المشروع الوطني" فيما أسماه الملتقى السياسي الوطني الأول ندوة قيمة بنواكشوط تحت عنوان "الديمقراطية في موريتانيا: عوامل النمو و المعوقات".

 

و لما أن المحاضرة الوزيرة السابقة و الدكتورة السنية منت سيدي هيبه استطاعت أن تقدم النموذج الحديث للمحاضرة العصرية برصد أقوى الأفكار و المحاور في تسلسل اكرونولوجي  مضغوط و محرر من الجزئيات المعيقة، المضيعة للوقت و المشتتة للأفكار، فإنها تركت في الأذهان بعض نقاط مظلمة و تساؤلات لم تُعط الإجابات الشافية لها، لكنه الأمر الذي سيشفع لها فيه ما وقع فيه أغلب المتدخلين الذين تم انتقاؤهم أساتذة و أكاديميين من بعض ميوعة و انزياح قسري عن لب الموضوع الشائك،

 

حيث تنوعت مداخلاتهم ـ عن قصد أو غيره ـ مسجلة مواقفَهم و قناعاتِهم التي كانت تمليها على ما يبدو مواقعُهم من صميم منظوماتهم السياسية، حتى لا أكون جازما فأقول قناعاتهم الحالية (باعتراف بعضهم أن الانتجاع السياسي أمر يعتد به في البلد و يعتبر علامة قوية من علامات الفروسية) و كذلك انتماءاتهم الإيديولوجية في ظل تفنيد الآخر و رميه بإفساد المسار الديمقراطي الجزافي و تقويض مسار البلد السياسي المذبذب و المحكوم في الأساس بمنظومة اجتماعية لم تغادر يوما حظيرة الرجعية و القبلية و صنوهما من الطبقية و الشرائحية و بعض إثنية مقيدة و إن تبدو في الظاهر خجولة لأسباب موضوعية و إملاءات تقسيمية تنافرية في العمق.

 

و عليه فإن الحديث عن التجربة الديمقراطية في بلدان لم تدفع شعوبها و لا سياسيوها في سبيلها أي ثمن هو حديث فيه جرأة كبيرة و بعض تجن صارخ ـ الذي قد يكون عن غير قصد أو ناتج عن ضعف وعي عميق ـ على تاريخها منذ كانت و على مسار تلك الدول الأخرى التي تعيش اليوم في كنفها باطمئنان و ثبات، و علما بأن الديمقراطية لم تتحقق يوما بلا ثمن و بسرعة و سهولة وسلاسة في أي بلد في العالم، بل إنها ولدت عبر مخاض عسير وعمليات قيصرية مؤلمة، و من هنا فإنه جدير بالقول إن الديمقراطية لا تولد مطلقا متكاملة ولن تكتمل لأنها صيرورة تراكمية تبدأ بالحقوق البسيطة التي تتدرج في النمو مع الزمن عبر نضال الشعوب ووفق تطور وعيها بحقوقها و مدى تقدم رقيها الحضاري.

 

كما أنه لا يمكن فصل السياسة بمفهومها الحركي العملي الميداني الذي ينتمي إلى الخلفية و الحضن الديمقراطيين عن تراكم وعي روادها، إن كانوا ذا أدوار بينة و قناعات راسخة، المضمنة في نظرياتها التي تفرزها عقولهم و عبقرياتهم و تجد ترجمتها في التعاطي حتى تتحول إلى فكر مقروء مكتوب يتم نشره بين الأوساط الجماهيرية و يحمل اسما و عنوانا فيهيئ المناضلين الذين يتجاوزون به الخطوط الحمراء الوهمية و أسوار الانتمائية الحزبية الضيقة و الإيديولوجية المجزئة إلى حيز قراءة الوطن و تمحيص أحرفه في إطار و فضاء الجمهورية الشاملة. و بالطبع فإن غياب الفكر السياسي المطلق في هذه البلاد و غياب "المنتج العلمي" في دائرته ـ بأقلام أهل السياسة من نتاج عصارة فكرهم و ترجمة معرفتهم به و خصوصياته و متطلباته ـ على رفوف المكتبات و في الأوساط التعليمية و عند المحسوبين على النخبة و الأوساط القاعدية، هذا الغياب هو إذن آفة الوعي وسبب إرتكاسه إن لم يكن غيابه.

 

و ما سر نجاح بعض البلدان كالسنغال إلا لأن نجاح "السياسي" في مساره أصبح مرتبطا بالتدوين و التأليف عن كل مرحلة بأخطائها و نجاحاتها، و هو لم يعد يستطيع مغالطة مواطنيه الذين يقارنون أقواله و نظرياته و مقارباته بأفعاله و خطاباته طيلة مشواره في رحاب السياسة. و إن هذه المؤلفات هي التي أخصبت الذهنية السياسية السنغالية و زودت الشعب بعد أن صارت في متناوله بوسائل المراقبة الناجعة و المطالبة المبررة و الاختيار الديمقراطي الصحيح. و مهما يقال عن هذه الدولة الجارة التي تربطنا بها علاقات متشابكة و تفصلنا عنها خلافات لها جذور عميقة في تاريخ البلدين تطفوا تارة و تخبوا تارة أخرى، فإن ديمقراطيتها العتيدة تشهد ديناميكية و نمو مضطردين.

 

من هنا يمكن القول إن الذين يتوهمون وجود نضج سياسي كافي يُمَكِّنُ للديمقراطية المشتهاة في البلد واهمون و إن جرأتهم البالغة على التنظير بشأنها و تصور معرفة أسباب النكوص و تقدير الحلول الجديرة بإحلالها ضرب من التوغل في "الادعائية" المفرطة فيما الحقيقة المرة أن ما بين الفكر السياسي الهزيل في هذه البلاد و المحكوم باعتبارات الماضي ـ الحاضر و العجز عن استيعاب حقيقة أن المستقبل " حاضر مجهول " و أن " الأمل فكر سياسي نبيل"؛ حقيقة تنفي التحجر و التناقض على رأس عوامل الفشل في الأخذ بآليات الديمقراطية و عدم القدرة على إتباع السبل التي تُمكن من حيازتها سلاحا و وسيلة و متكأ للعمل على التغيير و البناء بها. فمتى إذن سيُرى على أرض الواقع نتاج فكر سياسي ناضج يغلب، في ميدان صنع و نمو الديمقراطية، على الحضور السلبي داخل حلبة صراع "الديكة التايلاندية" بعيدا عن الوعي الحتمي بخطر تمادي الخواء المعطِّل لقيام تجربة سياسية وطنية صقيلة تسجل نفسها كفكرة أمل مشروع.