على مدار الساعة

موريتانيا: عشـرون عاما على إصلاح 1999.. ألم يحن وقت المراجعة بعد؟

25 يوليو, 2019 - 13:30
د. محمد الخليفة ـ أستاذ جامعي

مرت عشرون عاما على اعتماد موريتانيا مشروع الإصلاح التعليمي لسنة١٩٩٩ الذي عرف يومها بمحاولة توحيد النظام التربوي في شعبة واحدة مزدوجة، بعد أن كانت العملية التربوية تتم في شعبتين مختلفتين إحداهما تعتمد اللغة العربية لغة للتدريس بينما تعتمد الشعبة الأخرى اللغة الفرنسية لغة للتدريس.

 

مع اعتماد هذا الإصلاح الجديد صارت اللغة الفرنسية هي "لغة التدريس" رسميا في جميع مراحل التعليم بدل اللغة العربية وصار لزاما على التلاميذ التأقلم مع هذه اللغة الجديدة طيلة مسارهم الدراسي من الابتدائية مرورا بالإعدادية ثم الثانوية.

 

بهذه اللغة يتم تدريس جميع المواد العلمية من الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية حيث أن هذه المادة الأخيرة يبدأ تدريسها للأطفال بدءا من السنة الخامسة ابتدائية وباللغة الفرنسية أيضا!

 

إن تقييم أي نظام تعليمي وتحديد نسب نجاحه أو فشله لابد أن يمر حتما بتقييم مخرجاته ابتداء بعدد الخريجين وكفاءاتهم ونسب اندماجهم في سوق العمل، وبالنظر إلى نسب النجاح في الامتحانات الوطنية خلال العشرين عاما الماضية يتضح لنا حجم الكارثة التي أصابت التعليم في هذه الربوع حيث تراجعت بشكل كبير نسب النجاح في الباكالوريا والشهادة الاعدادية وكذلك مسابقة دخول السنة الاولى مع ارتفاع ملاحظ في نسب التسرب المدرسي وعزوف الأطفال على الالتحاق بمقاعد الدراسة. ثم إن النسب القليلة من الطلاب الذين تمكنوا من تجاوز عقبة البكالوريا يتضع جليا ضعف مستوياتهم في اللغة الفرنسية وكذلك اللغة العربية وقد يعود ذلك لضعف أساتذتهم أيضا في هذه اللغة التي صارت تشكل عائقا لابد من النظر فيه من جديد.

 

إن لغة التدريس من أخطر العوامل تأثيرا في جودة التعليم وهذا معلوم عند أخصاء التربية، وجميع الدراسات الحديثة تؤكد أن تدريس الأطفال بلغتهم الأم يساهم بشكل كبير في استيعابهم للمادة المدروسة وإتقانها والابداع فيها، لم يعد هناك خلاف في دور اللغة الأم في تكوين الطفل وتميزه، من المعروف بداهة أن اللغة الأم للطفل هي تلك اللغة التي يستمع لها منذ أن كان جنينا في بطن أمه ثم يواصل الاستماع لها بعد الولادة، يبكي بها ويضحك بها ويطلب الشراب والطعام عندما يعطش ويجوع، يستمع لها في المنزل والشارع وفي المعلب مع أقرانه، هذه اللغة من المفروض أن يتلقى بها تعليمه حتى يتجاوز المرحلة الثانوية ليصير حينها ناضج ثقافيا، ساعتها يمكنه الشروع في تعلم أي لغة أجنبية ثانية وثالثة ولن يكلفه ذلك كبير عناء.

 

عندما نتخيل طفلا صغيرا في الخامسة من عمره، يخطو خطواته الأولى نحو التعلم واكتشاف معارف جديدة وأمامه الكثير من العراقيل، يدرس بلغة أجنبية غريبة عليه، لا يسمعها في البيت ولا في الشارع، حتى المدرس الذي يدرسه لا يتقن هذه اللغة، يعني أن هذا الطفل ملزم ببذل جهود مضاعفة في فهم اللغة أولا وبعد ذلك محاولة فهم المادة العلمية الخام، هؤلاء جميعا غرباء، المدرس والتلميذ، وآن الوقت للنظر لحالهم وإنصافهم بدل التمادي في اعتماد مقاربات تربوية أثبتت فشلها بعد عشرين عاما من التطبيق.

 

العالم اليوم أصبح أكثر إدراكا لأهمية التعلم باللغة الأم؛ التجارب والدراسات الميدانية التي تناولت الموضوع بإسهاب تؤكد أن التعلم باللغة الأم يعد الحافز الأول على الإبداع والتميز في اكتساب العلوم والمعارف، الدول الرائدة في مجال التنمية تنبهت لذلك وألزمت في تعليمها لغاتها الأم وكذلك في تعاملاتها اليومية. الأمر صار محسوما ولم يعد مطروحا للنقاش. أفضل الدول الرائدة عالميا تدرس بلغاتها الأصلية، أفضل ٥٠٠ جامعة عالمية في ٣٥ دولة متقدمة صناعيا تدرس جميعها بلغاتها الأم.

 

ينبغي الانتباه والتفريق بين مفهومين مختلفين يراد لنا دائما الخلط بينهم -ربما عن حسن نية-هما "لغة التدريس" و "تدريس اللغات الأجنبية". لغة التدريس تعني لغة تكوين لشخصية الطفل المقبل على الحياة وهي عامل أساسي لإنضاج هويته وانتمائه ونظرته للكون والحياة والناس، ويجب أن يتلقى بها جميع العلوم والمعارف في مراحله التعليمية الأولى -من الابتدائية مرورا بالإعدادية والثانوية -حينها يصير ناضج ثقافيا. التدريس باللغة الأم لا يعني أبدا أن اللغات الأجنبية ليست بذات الأهمية وإنما يؤكد فقط على أهمية ومحورية اللغة الأم بوصفها مكمن قوة وعامل أساسي في صنع مستقبل زاهر وآمن للمجتمعات.

 

إنا نقاش المسألة اللغوية بموريتانيا هو نقاش طويل ومتشعب ومعقد لكنه ضروري وآن الأوان لبلورة أفكار ناضجة في الموضوع يمكن تدوينها بجدية ورفعها للجهات العليا التنفيذية -البرلمان والحكومة -لعل وعسى تجد آذان صاغية ويتم اتخاذ قرارات في الموضوع. لابد من الانتباه إلى حساسية هذا الموضوع والابتعاد به عن التجاذبات السياسية والعرقية فهو في النهاية موضوع وطني جامع يتأثر به كل الموريتانيين ويؤثر على مستقبل أبناءهم بشكل مباشر.

 

نعم اللغة العربية لغة غالبية سكان موريتانيا -مع الاعتراف بوجود مواطنين موريتانيين -لا يعتبرون العربية لغة لهم ويرتاحون أكثر للغة الفرنسية -وهذا حقهم الطبيعي -مع العلم أن الفرنسية ليست لغة لأي مكون اجتماعي بموريتانيا والجميع يبذل جهود كبيرة لتعلمها -.

 

 موريتانيا ليست استثناء من دول المنطقة، هناك تعدد لغوي رائع يمكن الاستفادة منه والبناء عليه بدل تمييع التعليم والإصرار على إفساده، أنا ضد القائلين بفكرة تطوير اللغات الوطنية وإدماجها في المنظومة التعليمية وذلك لعدة أسباب قد أشرحها لاحقا -هي في الحقيقة لهجات وليست لغات والفرق كبير لمن له إلمام بسيط باللسانيات وعلوم اللغة -.

هذه اللهجات الوطنية ليست مؤهلة للتدريس وليس لدينا الجهد الكافي لبناء نظام صوتي وترميزي لكتابة هذه اللهجات، أفعال العقلاء مصانة عن العبث، - مثل هذه المشاريع تحتاج تمويلات مالية ضخمة بمليارات الدولار وكذلك كادر بشري وتقني رفيع لتطوير أنظمة ترميزية وأنظمة صوتية لكتابة هذه اللهجات ومعالجتها - تجربة المملكة المغربية المجاورة يمكن النظر فيها والاستئناس حيث أنشئت المغرب معهد ملكي للثقافة الأمازيغية قبل عشرين عاما بتمويلات مالية ضخمة كل سنة وكل هذا الاستثمار الضخم بهدف بناء أنظمة ترميزية وصوتية للغة الأمازيغية بغية دمجها لاحقا في التعليم حيث لا يتجاوز تدريس الأمازيغية في المغرب كونها مادة مسجلة على جدول الحصص في أغلب المؤسسات التعليمية الابتدائية دون أن يكون لها حضور فعلي في الثانوية والجامعة مما أدى لعدم وجود مدرسين لهذه اللغة- فهل لدينا امكانيات مالية مشابهة للتضحية بها في مثل هذه المشاريع الغير منتجة ؟-

 

في جميع دول العالم هناك لهجات ولغات محلية لكل إقليم لكن بالمقابل هناك لغة أو لغات رسمية يجب على الجميع تعلمها ولا مساومة في ذلك، في فرنسا نفسها هناك عشرات اللهجات التي تتحدثها الأقاليم الفرنسية المختلفة لكنها جميعا في طريقها للاندثار منذ فرضت حكومة باريس على جميع الفرنسيين استخدام اللغة الباريسية بعد ترسميها في الدستور الفرنسي واعتبارها لغة رسمية وحيدة للجهورية.

 

أمام هذه الوضعية التي يقبع فيها قطاع التلعيم في بلادنا صار من اللازم التفكير بشكل جدي في اقتراح حلول عملية لهذا المشكل ولن يتم ذلك دون دعوة جميع الخبراء والفاعلين الميدانين في قطاع التعليم للجلوس معا ونقاش الوضعية والخروج بحلول عملية قبل افتتاح السنة الدراسية المقبلة. وقبل أن يتم ذلك تظل المقترحات الفردية واردة. أرى أن الرجوع إلى النظام التعليمي - ماقبل ١٩٩٩- أفضل بكثير من البقاء على الوضعية الحالية.

 

يمكن للدولة وبسهولة توفير نظام تعليمي مزدوج وهذا بسيط وغير مكلف ماديا، أنا ضد إرغام الإخوة الزنوج على الدراسة باللغة العربية ماداموا غير مرتاحين لها ويعتبرون الفرنسية لغتهم الأم، هؤلاء مواطنين ولكم كامل الحق في الحصول على خدمة التعليم باللغة التي يرتاحون لها، في المقابل هناك مواطنين آخرين غير مرتاحين للفرنسية ويجدون صعوبة بالغة في تعلمها في المراحل الاولى ومن حقهم الحصول على تعليم بلغتهم الأم.

 

الأمثلة كثيرة في العالم ولا تحصى، خذ بلجيكا مثلا، النظام التعليمي معقد جدا، الدولة توفر التعليم للمواطنين ب ٣ لغات - أقول لغات وليس لهجات لأن هناك عشر لهجات مختلفة يتحدثها سكان المملكة البلجيكية لكن الدولة توفر التعليم باللغات فقط: الهولندية ، الألمانية و الفرنسية. -. لغة التعليم هي اللغة الهولندية في المنطقة الشرقية الناطقة بالهولندية، واللغة الفرنسية في المنطقة الوالونية المحاذية لفرنسا، واللغة الألمانية في المنطقة الناطقة بالألمانية بينما في منطقة العاصمة ابروكسل هناك اللغة الهولندية واللغة الفرنسية كلغتان للدراسة حسب اختيار آباء التلاميذ. آباء التلاميذ لهم كامل الحق في اختيار اللغة التي يدرس بها أبنائهم، المهم أن تضمن الدولة تساوي الفرص في التعليم والتوظيف. يمكن الاستفادة من النموذج البلجيكي في تعدد لغات التدريس.

 

السويد والنمسا وسنغافوره وفنلندا والنرويج أمثلة حية على التعدد اللغوي الناجح فم لم يكن عائقا في تنوع لغات التدريس وبناء نظام تعليمي متميز وناجح. إرغام الناس على تعليم أبنائهم بلغة أجنبية غير مرتاحين لها ظلم كبير، لابد أن نضع في الحسبان إختيار آباء التلاميذ واللغة التي يودون تدريس أبنائهم بها، غير ذلك تضييع للوقت وتفريغ لرسالة التعليم من محتواها فالعلمية التعليمية في النهاية ليست إلا تفاعل ناجح وإيجابي بين الطلاب والمدرسة والمجتمع.