على مدار الساعة

دبلوم في آخر النفق!

17 يوليو, 2019 - 14:07
أ.خالد ولد الفاظل ـ كاتب

قديما كنت مولعا بغريب الأخبار وبعيدها، فقد كنت أتابع بشكل مبالغ فيه أخبار الخمير الحمر في كمبوديا! ولدي دفتر صغير يحتوي كل دول العالم وعواصمها؛ كنت أرى بوضوح سانتياغو عاصمة تشيلي.

 

كنت مزودا بثقافة غير مضغوطة تخولني للفوز ببرنامج من سيربح المليون من دون الاستعانة بصديق أو حذف إجابتين. لدرجة أن بائعا متجولا يبيع الأسوار والخواتم والتعاويذ قدم من أعماق إفريقيا استغرب من معرفتي بالقبائل هناك عندما جلس بالقرب مني بعد أيام من سقوطي في الباكلوريا.

 

طبعا لم يكن الأساتذة يثيرون انتباهي في حصصهم إلا عندما يخرجون عن الموضوع لأنني كنت أعيش خارج الموضوع منذ سنة أولى ابتدائي وسعاد تلعب بدميتها. كنت أعقد سلكا في أذن تلفزتنا الصغيرة وأربطه بالنافذة ثم أكور يدي على السلك وأقوم بتحريكها جيئة وذهابا والغريب أنني أعثر على قنوات لا أعرف مصدرها بالرغم أنه لا يوجد آنذاك في مدينتنا سوى صحنين للبث.

 

كنت رساما ونحاتا أصنع التماثيل من الطين؛ وموسيقارا لدي قطعة مطاط مربوطة بعود تعلوه ثلاثة أوتار، كنت أجيد رياضة القفر بشكل لافت ولو أنني تدربت واقتحمت الأولمبياد لحصدت ميدالية ذهبية.

 

كانت لجميع أطفال الحي طاقات كامنة وأفكارا متوثبة!. لكن المدرسة كانت تحشرها في مسار أحادي ممل بالاشتراك مع الوسط. كانت معلمتي إذا صعدت عتبة القسم بعد صمت الظهيرة شممت رائحة السمك في القسم رغم أنه كان يأتي لمدينتا البعيدة عن شواطئ المحيط بصعوبة.

 

لا أدري لماذا كنت أشم دائما رائحة السمك في الحصة المسائية بينما لم استطع شمه بتلك القوة عندما غاصت أقدامي داخل أمواج البحر على سواحل نواكشوط ورأيت أجسام السفن العملاقة تترنح بكل تثاقل فوق المياه الزرقاء كأجسام سكارى يرقصون بصعوبة في حانة وسط كاركاس. كنت أردد تلك الكلمات التي يتفوه بها السياح وهم يعبرون الطريق الرملي نحو الجبال وأقول في نفسي عندما أكبر سأترجمها لمعرفة فيما كانوا يتحدثون. كان هناك فضول هائل في دواخلنا لأكتشاف الأشياء، كان بحجم جبل جليدي عملاق لكنه مع الصعود مع سلالم المدارس أخذ يذوب حتى بلل طرقات الاندفاع وجعلها راكدة وغير سالكة.

 

عندما تحصلت على نتائج مجهرية في الرياضيات وضبت ثقافتي ونسيت أمر الخمير الحمر؛ ثم أغلقت علي البيت الأقصى لثمانية أيام مختليا بالرياضيات التي كنت متفوقا فيها في المرحلة الإعدادية؛ والتي أهملتها عندما ذهبت للثانوية وعثرت على مكتبة غنية ومتنوعة؛ هي الوحيدة آنذاك في مدينتنا.

 

عندما اختليت بالرياضيات تحسنت بها علاقتي وتبين لي فيها الخيط الأبيض من الأسود وصرت قادرا على تتبع دالة رياضية حتى تذوب مجاهيلها الحدية داخل منحنيات كانت تذكرني بانحناءات الجبال المكدسة خلف ثانويتنا ذات الفصول والأسوار الحجرية. لا أنسى كم كان صديقي مسرورا بعد مشاهدته للحيوان المنوي تحت المجهر في إحدى حصص العلوم. أما أنا فأردت أن أرى حلقات كوكب زحل مع أنه لا يوجد تلسكوب عملاق في المدينة سوى قصص الأسلاف التي بنت لنا جسورا من الأمجاد الطائرة والتي سرعان ما هبطت مع انتشار اللواقط المجوفة على أسطح المنازل.

 

بعد سنوات التيه؛ أدركت بأن القبض على الباكلوريا حية ترزق يحتاج للاستسلام للمقرر. حتى أن بعض المواضيع في العلوم الطبيعية والفلسفة مثلا كان ينصح فيها دائما بإسقاط منهجية معينة لبعض الأساتذة! لأن سقوط ورقة الإجابة في يد أحد أتباع المنهج المخالف ربما يؤثر على النتيجة، وهو ما يشي بغض النظر عن صحته من عدمها بأن منظومتنا التربوية قاتلة للإبداع وتشجع على اجترار المقرر مثلما تفعل الحيوانات مع الطعام لإعادة هضمه وطحنه دونما أي فهم منهجي متصاعد. لم تكن منظموتنا تنتج سوى ناقلين لا يستطعون الفكاك من المقرر. كانت القيمة الحدية العظمى لطموحاتهم تكمن في الاستحواذ على وظيفة مفروشة ومريحة تكرس بقاء بلادهم ضحية لسطوة البنك الدولي والشركات العظمى، تاركة وعيهم ككرة فارغة يتقاذفها الانبهار بالغرب حينا وحينا تنكمش داخل التراث كقنفذ يشعر بالخوف من الغرباء القادمين لا محالة ليخترقوا عالمه المثالي.

 

لا أحب لعب دور الحكيم والناصح؛ ولا أحب التنظير أمام جمهور غفير من المثقفين بحجمكم. لذلك لن أبدي وجهة نظري في نسبة النجاح الضئيلة في الباكلوريا هذا العام مع أنني نشطت في (المنظومة التربوية) كتلميذ خجول وصامت يجلس في آخر الصف ويقضي أغلب الحصة في الرسم والتأمل، وبعد ذلك أستاذا لا يخرج عن الموضوع والمنهج ولم يشارك في الرقابة والتصحيح؛ اكتفى طيلة سنواته براتب الدولة الغني عن التبخيس؛ ولم يمد جسر التواصل مع جيوب التلاميذ والحمد لله. طبعا أنا لا أريد أن أطبل لنفسي كما هو متداول هنا. فقط؛ هذه رسالة مشفرة لمن يعتقدون أنني "رجل أعمال" عندما يرونني أسافر من أجل السياحة والاستجمام.

 

لطالما كتبت عن التعليم من عين السبورة، ومن المناطق النائية والمنسية. بيد أنني مؤخرا لم أعد متحمسا للغاية لما يجري من حولي من أحداث. لقد أدركت بأن التنظير المجفف لا يجدي نفعا مع صناع القرار الذين لا يقرأون إلا ما هو سياسي ويتسم بالتلميع المتهافت أو بالشتائم المبتذلة. كما أن النخبة تعي مدى بؤس التعليم بيد أنها تتغافل عنه من أجل مصالح لحظية تغذيها الأطماع، أما عامة الشعب فإن طلب لقمة العيش يستحوذ على وقتها ووعيها وسواعدها. جميع عمال وزارة التعليم يعرفون جيدا أسباب تدهور التعليم. لكن من دون وجود نية قوية وإصلاح صارم يقام به بعيدا عن متناول الفساد؛ لن يبرح التعليم الأعجمي مكانه..

 

فقط أود التنويه لخطورة الأفكار المسمومة التي انتشر دخانها مؤخرا بسبب الاحباط المتولد من واقع المنظومة التربوية وارتفاع معدل البطالة في صفوف خريجيها من ضحايا تسييس المنظومة وخصخصتها العشوائية وتوريث الوظائف داخل دائرة ضيقة ذات قطر معلوم. إن الأفكار المسمومة تحاول تصوير تحصيل العلم كمضيعة للوقت والجهد. على أقل تقدير؛ فإن المتعلم وبغض النظر عن حصوله على لقمة عيش رخيصة أو كريمة جراء مسيرته العلمية؛ يتطور إدراكه للوجود من حوله؛ ويكتسب وعيه مرونة تمكنه من التحليل المنهجي والتفكير الموضوعي وتقدير الحرية والعدالة والسعي من أجلهما بتعقل أكثر من الآخرين.

 

عندما قبضت على شهادتي في الكيمياء لم أشعر مطلقا بتفاعل سريع مع البهجة. لأن الطريق إليها كان عشوائيا وخاليا من محفزات الشغف. لذلك؛ سرعان ما تأكسدت المعلومات التي تحصلت عليها عندما لم تجد سوق عمل تذوب فيه. يبدو أن الشهادات الجامعية في بلادنا مجرد قسمة ونصيب. مع ذلك تبقى طريق الدراسة إن أحسنت الدولة تعبيدها من أفضل الطرق وأكثرها مردودية على العقل والجيب معا.

 

هنا نواكشوط. وأقولها بكل أسف إن نواكشوط من أكثر عواصم العالم خمولا. عندما تقضي فيه العطلة؛ فإنك لا تجد مصانع وورشات إن أردت عملا مؤقتا. ولا تجد مدن ألعاب إن أردت أن تلعب. ولا تجد مكتبة ضخمة إن أردت أن تقرأ. ولا تجد شواطئ معمورة إن أردت الاستجمام والسباحة الحرة بأمان. ولا تجد شوارع جميلة إن أردت أن تتمشي وتذكر الله. منذ أيام استفسرت عن إمكانية العثور على مدرسة لتعليم سياقة الجرافات(آكرديرات) دون جدوى!.