على مدار الساعة

صراع النخبة والسلطة في موريتانيا

11 فبراير, 2019 - 13:41
أحمد ولد عبد الرحيم الدوه - إعلامي موريتاني

يقول أحد المفكرين (لقد توصلت إلى نتيجة أن السياسة أخطر بكثير من إن نتركها للسياسيين)

 

يعرف العارفون بالسياسية أن السياسة هي فعل الممكن، والتداول السلمي، هو المنهاج القويم، والطريق المستقيم لكل إصلاح رشيد، والأسلوب الأنجع لحل الأزمات في أي بلد. وموريتانيا هذه الدولة العربية الإفريقية التي تعاني منذ استقلالها من أزمات كادت تعصف بكيانها الهش نتيجة لغياب إستراتجية وطنية لتسير الدولة والتفكير في رؤية موضوعية مما أدى إلى اضطراب الوضع الاجتماعي والأخلاقي والتدهور الاقتصادي، رغم الموارد المتعددة والمتنوعة، وذلك بفعل الأزمات السياسية مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي وغياب الدولة، نتيجة للانقلابات العسكرية، التي أفرزت أحكاما (ديمو عسكرية) فالأزمة أزمة نخبة حاكمة لم تتجاوز مرحلة الوهن وحب السلطة والوظائف والامتيازات، ولم تصل بعد إلى مرحلة النخبة الوطنية الصادقة مع ذاتها ووطنها القادرة عالي مواجهة القضايا الوطنية بكل شجاعة، ومسؤولية، وذات رؤية إستراتيجية لمراجعة الذات، والأدوار، وتحديد دور الطبقة السياسية الوطنية التي تحكم منذ الاستقلال، والتي بلغت من العمر عتيا ووهن منها العظم، دون أن تقدم جديدا علي طريق بناء دولة المواطنة (الدولة الخادمة).

إن موريتانيا الغنية بمواردها البشرية بحاجة إلى رؤية وطنية تنهي أزمة (دولة المسؤول) والتي يجلد بها الشعب و تأكل أمواله بالباطل باسمها، إلى دولة المواطن، حيث الهدف خدمة الشعب، الدولة الخادمة، إنها المعركة الكبيرة بين الدولة والسلطة، إن الهزائم والمغامرات غير المحسوبة والسياسات الفاشلة يدفع ثمنها الشعب، وتعني في النهاية غياب السلطة وإضعاف الدولة، فموريتانيا لم تجد استقلالها الحقيقي. إن وجود نخبة وطنية تمتلك رؤية وطنية لحل الأزمات البنيوية التي هي من مخلفات صراع الحكام والحركات السياسية ذات الخلفية الإيدلوجية بأساليب جديدة، ومتجددة فن السياسة، بعيدا عن أساليب المواجهة (بين السلطة والنخبة) وتقسيم الغنائم رؤية واعية تراجع أخطاء الماضي، وتعي الحاضر، وتستشرف المستقيل، من أجل وضع حد للاحتقان السياسي، بين مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية والحاكم الذي اختزل الدولة في شخصه (العقل الواحد)، وذلك بانتهاج سياسية راشدة عاقلة، من أجل تجاوز الأزمات في هذه البلاد التي جبلت نخبتها السياسية، على خلق الأزمات بدل الإنجازات.
 

والحقيقة التي لم يفهمها الذين يمارسون (هواية السياسة) في بلادنا أنهم جزء من الأزمة، التي تعيشها البلاد، وأن صناع المشاكل السياسية والاجتماعية هم أقل الناس قدرة على معالجتها.
 .
المشكلة أيتها (النخبة "المتسيسة")التي تجيد فن المناورات مع كل الأنظمة، وانتهاج سياسة الصفقات والصدمات فالأزمة السياسية في موريتانيا لا تحل بالمبادرات والمنتديات وإنما  بتشخيص الأزمة وتصور آليات معالجتها.

 

ن المشكلة في عقول (الفرقاء السياسيين) كل حزب بما لديهم فرحون، كل يقرأ الأزمة من رؤيته الخاصة لا أحد في المعارضة على استعداد لتغيير تلك الرؤية، أما النظام ومن يسيرون في فلكه والذين يفترض أن يكونوا في مستوى المسؤولية والأمانة حرصا على مصالح البلاد والعباد، فلا يرون أن البلاد تعيش أزمة إلا في عقول المناوئين للنظام حسدا من أنفسهم، ويترنمون آناء الليل وأطراف النهار، بانجازات ويغنون المعزوفة الموروثة عن أسلافه( البلاد بخير) ويختزلون البلد وإنجازاته في شخص رئيس المرحلة.

فالقضية أيها السادة تتعلق بحاضر ومستقبل موريتانيا، فالأمر يحتاج إلى وعي وطني، وتعاون النخبة الوطنية مهما كانت مشاربها الفكرية والسياسية والاجتماعية، فموريتانيا هي محل (الإجماع)، فالوطن هو الصيغة التي يجب على جميع تقديسها وعدم المساس بثوابتها الدينية والوطنية، فكل الاختلافات واردة ومطلوبة، ومقبولة، فالاختلاف محمود لكنه اختلاف مثمر في ظل الوحدة الوطنية، والثوابت الحضرية للأمة، أما الخلاف المذموم فهو الخلاف في حجم الانتماء والولاء للوطن فهو أمر مرفوض وغير مقبول وترفضه كل الشعوب الحر التي تحترم أوطانها.

وسأكون موضوعيا في هذا التحليل ما استطعت لذلك سبيلا فلست سياسيا، ولست مواليا الولاء المطلق للمنظومة الحاكمة، وأعترف أن ما حققته الأنظمة المتعاقبة على موريتانيا بما فيها النظام القائم الآن هو بعض ما ينبغي تحقيقه واجبا للشعب الموريتاني، وإنجاز الحكومات لشعوبها ليس تفضلا أو منة، وإنما هو الحد الأدنى المنتظر منها "فكل راع وكلكم مسئول عن رعيته" ولكنني لست مع معارضة لا تسير خطوة إلى الأمام إلا تقدمت خطوتين إلى الهاوية.. ولا تعترف بما أنجز لأنه ليس من صنعها وركوب الموجات والتأثيرات الخارجية والأزمات لا تحل المشاكل فالحل بأيدينا {إن الله لا يغير بما قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} فشعار إسقاط النظام أو رحيله الذي رفعته المعارضة حينا من الدهر، أثبت إفلاسه، لأن الظروف الموضوعية للثورة غير موجودة، ولا متاحة، وذلك لغياب رؤية إستراتجية شاملة، وخطاب سياسي موحد، وخطة معلنة ومحددة للإصلاح، وهو ما يجعل الكثيرين من المتابعين للشأن المحلي الوطني يعتقدون أن مفهوم (الاستقرار في ظل التغيير) الذي رفعته الأنظمة (الديمو عسكرية ) المتعاقبة على موريتانيا لا يبتعد عن مفهوم (الركود في ظل  الجمود) وبقاء الأمور على ما هي عليه وليس بالإمكان أحسن مما كان مما يسبب الحيرة للمراقب للأوضاع العامة للبلاد، أن الجانبين النظام وأتباعه والمعارضة وفصائلها، لم يقدما برامج للمستقبل، تتجاوز الشعارات العامة، وتتضمن أهدافا معينة لحل أزمة محددة هي إشكالية أزمة التداول على السلطة، مما يجعل الأمور تبقى على مستوى الكلام الكبير (فتسمع جعجعة ولا ترى طحينا)، لقد أضحى من المستحيل أن يجتمع أو يتفق أو يشارك محللون على رأى واحد اتجاه قضية وطنية، وقراءة متقاربة والأمثلة واضحة مشهودة وتتجلى في تباين المواقف السياسية من المشاركة والمقاطعة للانتخابات الرئاسية المقبلة، والذي قررت المنظومة الحاكمة ترشيح رئيس جديد طبقا لأجنداتها الخاصة ومنهجها، أما المعارضة التي تطمح للوصول إلى السلطة فما زالت لم تحدد بعد أجنداتها مما أربك الرأي العام الوطني،  بسبب غياب رؤية لديها لتقديم البديل والقدوة في التداول على السلطة في أحزابها السياسية ومنظماتها المدنية.
 

فهل نعلق آمالنا ومستقبل بلدنا، على هؤلاء غير القادرين على تحمل المسؤولية في الإفصاح عن إستراتجيتهم لمستقبل بلدهم مواقفهم السياسية وأجنداتهم ومنهجهم في الحكم، لقد علمتنا التجربة أن السياسيين الموريتانيين، تجمعهم المصالح الآنية، وتفرقهم المنافع العاجلة.
 

مما يولد تفرقهم وصناعة دكتاتور على المقياس حسب مواصفات من غيروا أو رحلوا النظام (سلما أو عنفا).. والسير بالبلاد في دائرة مغلقة ومفرغة و الرجوع إلى نقطة البداية.. ومزيدا من الفوضى وعدم الاستقرار، وتعطل عجلة التنمية، يجب أن نعترف أن المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم ،على ضعفه وهشاشته هو موريتانيا القديمة والحديثة، بمشكلاتها وتناقضاتها وتراجعاتها وطموحاتها وإخفاقاتها.
 

نخبة سياسية منذ الاستقلال إلى اليوم تتبادل الأدوار، تمجد جلاديها والعابثين بتنميتها ومواردها وما أكثرهم في المعارضة، والنظام نخبة سياسية تحسن فن المراوغة تحول النكرات إلى رموز وتحول الرموز إلى نكرات سياسيين يحترمون من يكذب عليهم ويعرفون أنه يكذب، ويحتقرون من يصدقهم القول ويعرفون أنه يصدق، نخبة سياسية تؤمن ببعض الكتاب الديمقراطي، وتكفر ببعض، موالون للنظام يمتهنون الكذب والنفاق والتخابر مهام سامية تعني (السياسة) إلى متى يتصارع هؤلاء من أجل مكاسب شخصية رخيصة وآنية على حساب هذا الوطن المنكوب بنخبته المتآمرة عليه .
 

فالحل أيها المؤمنون بمستقبل موريتانيا، هو ترسيخ القيم الديمقراطية، ودولة الحق، والعدل، لا الشكل الديمقراطي، حتى يستطيع المواطن أن يميز بين الطيب والخبيث، والزبد وما ينفع الناس، حينها تعود السلطة إلى أصحابها الحقيقيين بعيدا عن العسكر وكتائبه المدنية من النخبة (المتسيسة) التي تشرع له الانقلابات فيراها فعلا حسنا وخيارا شعبيا وتصحيحا وإنقاذا.
 

فكل الأدلة والتقارير في تاريخنا السياسي الحديث، تدين شخصيات مدنية بعينها بوزر هذا الانقلاب العسكري أو ذاك من الإطاحة بالحكم المدني الأول 1978م إلى 2008 ليس هناك انقلاب عسكري في موريتانيا لم تخطط له (النخبة السياسية) بكل تياراتها الإيديولوجية (القومية ـ الإسلامية ـ اليسارية ) أو تخلق له أجواء التأزيم لتبريره ليكون خلاصا أو إنقاذا أو تصحيحا ويضرب بعضها بعضا سجنا وتشريدا وفصلا من الوظيفة (ويمكن الرجوع لشهادات السياسيين) في البرنامج التلفزيون الصفحة الأخيرة الذي كانت تبثه التلفزة الموريتانية.
 

إن الشعب الموريتاني متحمس بطبعه والطيب بسريرته، مل لعبة العسكر والنخبة السياسية ويتطلع إلى تغير جديد، وبعقول وأفكار جديدة، ومسار عقلاني ناضج، منبعث من روح وطنية ونقد الذات والأدوار، بعزيمة عالية تصب في مصلحة الجميع خصوصا في هذا الظروف الاستثنائية ومشاكل (الصيف الربيع) وما يقع في القارة الإفريقية من انقلابات وحالة الحرب والفقر والمرض الفوضى والانسداد السياسي، والتدهور الأخلاقي، والاقتصادي، الذي نعيشه على كل المستويات، خصوصا القطاعات الخدمية الحكومية من تدهور وإفلاس وتسريح للعمال، وضعف القوة الشرائية ـ والدعوات العنصرية…) مما يولد مزيدا من الإحباط و تراكم المشاكل و الأزمات و ضياع الأمل، فالوطن في خطر يعاني من أزمات قد تجلب لا قدر الله ـ وقانا الله شرها أوضاعا خطيرة، اقتصاديا واجتماعيا، فلا عاصمة بعد الله إلا المصالحة والمصارحة، ومعرفة الواقع السياسي والاجتماعي على حقيقته وطرح البدائل والدفاع عن الثوابت الدينية والوطنية، التي هي مصدر قوتنا ووحدتنا وعزتنا.
 

نحتاج إلى خطا ب جديد، خطاب الأمل، والحياة يتجاوز مرحلة الوهم والتآمر، لكي نبني وطنا نعيش فيه بأمن وأمان نطعم فيه من الجوع، ونؤمن من الخوف، ولن يحدث ذلك إلا بإحالة المترددين الفاشلين، من النخبة العاجزة، التي جبلت على حب السلطة إلى التقاعد، ولسنا بحاجة إلى (حراك شبابي) سياسي يتصارع على موائد السلطان، باسم تجديد الطبقة السياسية، بحاجة إلى أفكار جديدة تطرح فكرة البناء والوحدة والتنمية والتوافق والتداول السلمي على السلطة، نحتاج إلى نخبة إذا حدث صدقت وإذا أنجزت وعدت، وإذا أتمنت لم تخن الأمانة، مبدؤها (سياسية الأخلاق وأخلاق السياسة) فالسياسة لا تعني الانتهازية والوصولية السياسية، تعني إرشاد الناس وتوجيههم وسوسهم وحكمهم بالإصلاح والعدل، في أمور دينهم ودنياهم، فمبدأ الغاية تبرر الوسيلة انتهازية رخيصة، وتؤدي إلى ردات فعل خاطئة، بل يجب أن ننطلق من أطر أخلاقية تقوم على مبدأ الشورى والعدل والتوافق بين الغايات والوسائل (فالوسائل يجب أن تتكافأ شرفا مع غاياتها) ونستحضر هنا قول المفكر الإسلامي مالك بن نبي (إذا كان العلم بدون ضمير خراب الروح فإن السياسة بلا أخلاق خراب الإنسانية) .