على مدار الساعة

لكي تكون ولاته 2 أنجح من ولاته 1

8 نوفمبر, 2018 - 18:10
بقلم سيد أحمد خو - موظف سابق بالأمم المتحدة

تتجه الأنظار إلى ولاته حيث سيحتفل الوطن كله بثقافة وتاريخ المدينة وهذه لعمري سنة حميدة ولذا وجب الانخراط فيها وإمدادها بالمساندة والنصح الخالص والمقترحات العملية حتى نسمو بمهرجان المدن القديمة عن جانبه الفولكلوري البحت.

 

ولاته، ليست كغيرها من المدن، إنها حاضنة ثقافتنا العالمة على مدار القرون، فلولاها ولولا أخواتها ما كان لنا أن نعتز ببلد المنارة والرباط والأمم العريقة امتداد لماضيها الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، أما الأمم الفاشلة فهي التي تترنح تتقاذفها زوابع العولمة في دنيا الحضيض.

 

ولاته، ليست عاصمة مقاطعة فحسب ولكنها العاصمة الثقافية للوطن عامة والشرق الموريتاني بصورة خاصة، تعالو نتتبع خريجي المدرسة الولاتية نجد أن كبار العلماء أو جلهم تتلمذوا على ولاته أو على مصاديرها.

 

ولم يقتصر إشعاعها العلمي عن الوطن بلتعداه إلى الجوار، إلى أزواد، إلى تمبكتو التى كان للولاتيين بها حي كامل. وكانت ولاته الملاذ للعلماء عندما يمتحنون (تذكروا تاريخ أسرة أحمد بابا التمبكتي وهجرة علماء سنكورى إلى إيولاتن وتازخت)، إلى أتوات حيث كانت قافلةالحجيج تجتمع قبل الانطلاق، إلى السودان وأسرة أهل أحمد دوكورى خير شاهد (وقد كتب بول مارتي أن عشرات المدارس القرءانية في باماكو بداية القرن كانتولاتية)، إلى الغرب والمشرق عبر رحلات الحج (راجع الرحلة الحجازية للفقيه محمديحي الولاتي رحمه الله، توقف معه في كل المحطات لترى مساهماته العلميه، سواء في واد نُون أو مراكش، أو في الحجاز والجامع الأزهر والزيتونة والزاوية التيجانية بتونس أو بفاس والجزائر).

 

ولاته، أرض مباركة، مصلى كبير، جامع مفتوح، مجتمع متحضر صمد في وجه عاديات الزمان، سلاحه العلم والإيمان، ومن قيمه المركزية الاعتماد على الذات وحب الأوطان.

 

فيا داخلا ولاته خفف الوطء، واعمل الفكر وتأمل بخشوع، كل شارع له تاريخ، كل منزل له قصة، كل حجر، كل مدر.

 

هنا بلد العلماء:

في هذا الشارع كانت حلقات دروس العقيدة تقام حول الطالب محمد بن الطالب بوبكر الصديق البرتلي أو أعمر الولي بن الشيخ محمد عبد الله المحجوبي.

 

في تلك "الرحبة"، منبر فقه تتالت عليه أجيال من الفقهاء تَرَكُوا بصماتهم فيعشرات المخطوطات، منهم الطالب أحمدو الطالب محمد البرتليين، وَعَبد المالك بن النفاع الداودي، وسيد أحمد بن بوكفة، ومحمد يحي الولاتي ومحمد يحي اليونسي، وغيرهم.

 

في ذلك الزقاق، كان الطالب عمر و الطالب البشير الايديلبيين يجيزان في القراءات السبع، وهناك كان احتدام الجدل بين حزب الجيم المنعقدة (مدرسة سجلماسة) والجيم غير المنعقدة.

 

فإذا دخلت المسجد، مسجدا أسس على التقوى من أول يوم، فحيه ولا تستعجل؛ في ذلك الركن كان يدرس "صحيح البخاري"، و"نور الحق الصبيح" لمحمد يحيى الولاتي، وكان المداحون يترنمون بقصائد من "ديوان السعادة في مدح صاحب السيادة" لا انبوي أعمر.

 

وإن لم تغادر بعد صلاة العصر فسىتمسك نفحات من بركات تدارس "الشفا بتعريف المصطفى" للقاضي عياض.

 

هنا بلد الشعراء واللغويين:

اسأل من شئت عن "شرح المكودي" أو "بزوغ الهلال على لامية الأفعال" للبرتلي أو "فتح الأقفال" على "بحرق" أو ملحة الاعراب أو " المواهب التليدة في حل ألفاظ الفريدة"، واسأل مَنْ شيت عن مقامات الحريري وعقود الجمان واليوسية والمقصورة الدريدية والشقراطيسية ولاميةالعرب ولامية العجم وحتى الشمقمقية، تجدهم يحفظون كل ذلك عن ظهر قلب بمتنه وشروحه.

 

هنا بلد القضاة:

هنا بلد القضاء والمرافعات، بلد الفروع والأصول، شرحوا العاصمية وهضموا التاودي والتسولي وفكوا الوثاق عن لاميةالزقاق (اند عبد الله المحجوبي) فجاءت الأجوبة والفتاوى والنوازل بحر لا ساحل له (نوازل عثمان الكبير ، نوازل الكصري، أجوبة انبوي...)

 

هنا بلد العباد والمحبين، أهل مقام الإحسان:

تلك منازل القوم، أطلالها، عرج بها ولايفتك التبرك والاعتبار، هنا عمر الولي تاج البلدة، هناك عبد الله المكي متزوج اليتيمات ومعيل الفقيرات، وهناك ما زال صدى نغمات الولي الصالح الخضر بن الفقيه محمد الجماني تردد ابن مهيب:

"خليلي عوجا بالمحصب وانزلا *** ولا تبغيا عن خيفه متحولا

فأكرم به مغنى تحراه منزلا *** أحق عباد الله بالمجد والعلا

نبي له أعلى الجنان مبوأ ***

 

وما أراك لو قمت فجرا إلا سمعت مناجاة العباد ترتفع في خشوع وانكسار وسمعت بكاء ابن محمد نض الولاتي:

مالي على اللهو واللذات واللعب *** عكفت ويحيى فما يكون منقلبي

ولَّى الشباب وأقبل المشيب ولم *** أفق ولست بذي علم ولا أدب

قد ينقضي اليوم ثم اليوم يتبعه *** شهر وعام بل أعوام ولم أتب

 

هذه هي ولاته التي نحبها وتحبنا، مستودع العلم والقيم، فعلى مجلسنا الجهوي ان يعلنها عاصمته الثقافية وعليه أن يعمل على تطويرها على جميع المستويات فهي بطاقة تعريفنا.

 

أما العبء الكبير فيقع على عاتق الدولة ويتطلب برمجة شاملة للنهوض بالمدينة وانتشالها من الضياع، وَقَد أشرنا الى ذلك في مناسبة سابقة، وما زالت المطالَب هي هي:

 

"إن من واجب كل أمة الحفاظ على ثقافتها ومعرفة تاريخها لتكون على بينة من أمرها (تعرف من أين أتت وإلى أين تسير)، لذا كان وجوب الالتفاتة إلى برنامج ولاته فرض عين لا فرض كفاية، لأنها أمانة عظيمة في أعناقنا يجب تسليمها إلى الأجيال القادمة التي هي بحاجة إلى معرفة جذورها الثقافية حتى لا تعصف".