على مدار الساعة

هذه ليست السعودية التي أحب

22 أكتوبر, 2018 - 11:11
اسماعيل ولد الشيخ سيديا - كاتب

مكاتب القنصليات والسفارات في العالم هي أركان حالمة يُسر فيها المواطن المغترب ويسترق فيها النظر مرات لعلم بلاده يرفرف على ساريته، يصافح مواطنين زوارا ومسؤولين، ويتحدث بلغة قومه؛ يحس بالانتماء بعد أن كادت تُفرغه المنافي.

 

وقد يتناول شايا أو مكسرات محلية تعود به للحظات إلى مراتع الصبا والأهل والخلان، وقديلتقي ثمة أحد الجيران أو الأقرباء بالصدفة.
زيارة الإنسان لها في المنافي هي إعادة خلق نجترحها مرة أو مرتين في العام طوعا أو كرها وكثيرا ما تصطلي بالغبطة والنشوة والحبور.

 

لكن القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول التركية تحولت في اكتوبر 2018 إلى إحدى أشهر سوءات الدبلوماسية العربية في التاريخ.

 

حيث اصطيد فيها رجل أعزل نشوان من فرح لأنه أخيرا سيستطيع إكمال دينه بعد عزوبية قسرية متأخرة؛ يعاني وحشة المهاجروإلحاح الابتعاد عن الكبائر التي تباع وتشترى في دنيا اليوم تماما كالحلوى والمناديل الورقية ، واقتيد إلى قبره.

 

لم يكن جمال خاشقجي حين دخل قنصلية المملكة العربية السعودية كاتبا ولا مغردا ولا سياسيا، لقد دخلها حسب الراجح من طوفان العواجل القادمة من بلاد العثمانيين مواطنا يريد أوراقا ثبوتية.

 

اختفى جمال في ذلك المبنى وظهرت السعودية ومن خلالها ظهر الإسلام وظهر العرب، ولكن هذه المرة قتلة جزارين غدارين غير مأموني الجانب.

 

وأنا أتابع شاشات الدنيا وقصاصات الأخبار تحولت آمالي العراض في العهد السعودي الجديد إلى خيبات تترى، رأيتني فاشلا عاجزا حتى عن متابعة الحدث وعن الشعور بالانتماء.

 

زرت المملكة العربية السعودية ذات سانحة منذ عدة أعوام، كنت في الحجاز حيث روضة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورياض الآل والصحب الكرام. والكعبة المطهرة، وفي مقاهي جدة لقيت الكتاب والمبدعين والعامة. 

 

كانت الأحاديث في مُقامي الحجازي ذلك منسابة حول ثنائية الدنيا والآخرة، وكان للحريات العامة نصيب من تطلعات الناس، معظم جُلاسي يتطلعون لترخيص قيادة المرأة للسيارة وتخفيف الشرطة الدينية من سطوتها على الشارع، ومكافحة الفساد.

 

بعد تولي الملك سلمان السلطة وبعد تولي الأمير محمد ابنه ولاية العهد وإعلان رؤية 2030 حدثت الانفراجة الكبرى، فبدأت المرأة في القيادة وخفت الوصاية على العقيدة وحشر رأس المال في فندق الريتز ورأى العقل النور هناك.

 

ثم مالبثت متوازيات متنافرة أن تناثرت من السعودية.

 

حرب ضروس في اليمن واعتقالات لأصحاب الرأي وشق للصف العربي، وكانت أم القواصم قضية جمال خاشقجي.

 

وبعد أخذ ورد ثبتت موت خاشقجي رحمه الله، ولكن الروع كان في التفاصيل، قتلة رسميون تداعوا خارج بلدهم وانقضوا على ستيني أعزل في مبنى إداري دبلوماسي استدرجوه إليه ليسلموه ورقة عزوبية تخوله كسر وحشته.

 

كيف قتلوه ولماذا قتلوه ؟ حكومات الغرب لم تبتلع شروح السعودية حول قتل مواطنها.

 

ظهرت الرواية السعودية متهافتة مختنقة تتلهف لطوق نجاة قادم من المجهول؛ وبدت أوروبا في بيان كبارها الثلاثة باريس ولندن وبرلين حازمة غير مجاملة.

 

وباتت الولايات المتحدة زائغة تتلمس رئاستها المخارج ويخرج شيوخها ونوابها عن طوقهم.

 

لم تكن موت جمال خاشقحي عادية ولم يكن هو مغدورا عاديا، ولم يكن العالم حين دُبر الأمر بليل مثلما كان.

 

فالرجل حدث عن نفسه كثيرا كمنشق سعودي ذي عمود صحفي في إحدى أكبر الصحف في تاريخ الإعلام العالمي.

 

يتمتع بشهرة واسعة ويشكل خطرا على الحكم والإعلام والسياسة في بلد مثل المملكة العربية السعودية، تعتبر التعددية السياسية فيه خروجا على ولي الأمر؛ والحرية الإعلامية ردة والديمقراطية كفرا.

 

وهزلت مكانة السعودية -مأسوفا عليها- أمام المتحدثين فصار الكل يقول مايشاء لمن يشاء هناك، واستبيح نظام حكمها وسياستها وتجارتها ودبلوماسيتها.

 

هذه ليست السعودية التي أحب ويحب غيري من الملياري مسلم حول العالم، بل نريد استعادة تلك الصورة الجميلة لدولة رحيمة قوية تتدخل حين يختفي الآخرون، تحمي الحرمين وتشكل القلب النابض للعالمين العربي والإسلامي.

 

مامن أحد في مثل حالي يحب أن تبدو الدولة السعودية كزبون كبير لمؤسسات ماوراء البحار، تلتمس الغفران من كهول أمريكيين منتخبين بشق الأنفس؛ أو من أحزاب سياسية وصحف تركية لغتها التي تتحدث بها أصلا لاتتجاوز حدود بلادهم؛ ولا أن يبدو مسؤولوها مثيرين للشفقة يتلاعب بعضهم ببعض.

 

فالسعودية أكبر من ذلك كله ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تستسلم لصورة الدولة القاتلة المثيرة للشفقة مهما كلفها ذلك.

 

فعساها تُكفر عن موت خاشقجي بإحيائنا جميعا ولم شملنا جميعا وإظهار نفسها بشكل ثوري جدا ومختلف جدا.

 

فالعالم أمام هول جريمة قتل خاشقجي إما متشفٍّ في السعودية وإما مشفق عليها أو مترنح بين المنزلتين روعا ورهبا وصدمة؛ ومن الحكمة أن نضع العقل في الواجهة قبل أن نضع تلك الواجهة في العقل.

 

وستظل ابتسامة جمال خاشقجي وشيباته الوديعة المتناثرة في ذقنه وشدقه؛ وصوته الجهور وأسلوبه الأدبي المشاكس المتبصر سيمفونية إحيائية خالدة.

 

وتوشك أن تضيء طريق الحكامة في بلد أحبه كثيرا وأحببناه كثيرا ونريد أن نظل نحبه.