على مدار الساعة

"جهلوا" المركز.. فعادوه

26 سبتمبر, 2018 - 12:32
الدكتور إبراهيم أعمر كل

الأخبار المتواترة بشأن إغلاق "مركز تكوين العلماء" وسحب رخصته بعد لقاء جمع الرئيسَ بعدد من وزرائه "المشغولين" عن مهمَّاتهم في إدارة شؤون البلد ومصالحه، جعلتني أستيقن أنّ من يُخطّط لأمر كهذا، أو يأمرُ به، أو يسعدُ له "جاهل" بمركز تكوين العلماء وإن كثرت "عيونه"، وحثَّ مُخبِروه الرّحل "يسّاقطون" عليه بما يُغيظه فلعلّهم بذلك لم "يعلّموه"، "جاهلٌ" بإسهام المركز الكبير في بناء البلد وتنميته، وفي نهضة الأمَّة ورفعتها.. "جاهل" بسوء عاقبة ما أقدم عليه.. (والجاهلون لأهل العلم أعداء).

 

لقد خبَرت المركزَ منذ تأسيسه، وعمِلتُ فيه مدرِّسا أربعَ سنين.. وأودّ أن أُسهِم في إنارة الرأي العامّ بقبساتِ من إشعاع هذا الصّرح العلميّ المُبارَك؛ ليفهموا "سرّ" انزعاج الظالمين وأذيالهم من مؤسَّسات التعليم ومنارات التربية التي تصنع الوعيَ، وتُشكِّل روافدَ جليلةً للأمَّة تمدُّها بالمصلحين من العلماء والمفكِّرين، ولينكشفَ لهم الافتراء الرديء الذي ينعَق به منتهِكو "الحُرُمات" ومنكّبو القُربات.

 

السلاطين والمدارس العلمية

 لم يعرف التاريخُ الإسلاميّ على تقلُباته، وتلوّن الظلمة من السلاطين فيه عداوةَ الحكّام للمدارس العلميّة، والمؤسّسات الوقفية المُسنِدة لها.. بل عرَف تاريخنا وحفِظ نقيضَ ذلك؛ فقد كان كثيرٌ من الخُلفاء وَوُلاة الأمصار وأبنائهم.. شديدي العناية بتشييد المدارس الشرعية وتأسيس المكتبات العلميّة، ورعايتها بالأوقاف الضافية، واستمرّت بعض تلك المعالم العريقة مئات السنين تحمل أسماءَ وألقابَ مؤسِّسيها كالمدرسة النِّظامية ببغداد [نسبة إلى الوزير نظام الملك] ودار الحديث الأشرفيَّة [نسبة إلى الملك الأشرف] والمدرسة الأتابكية [إضافة إلى بنت نور الدين أرسلان بن أتابك] والمدرسة الصالحيَّة [نسبة إلى الملك الصالح أبي الحسن] والثلاثة من مدارس الشام.. بل كان منهم من يوصي بدفنه في تربة تلك المدارس وأوقافها؛ ليُخفِّف عنه أريج ذلك العمل الصالح ما قد يلقاه من أذى.

 

وبلغ حرصُ القوم – رغم ظلم بعضهم وفسقه - على العناية بالمدارس العلميّة مبلغا عجيبا، فقد كان بعضهم يقيم المآدب الفخمة لطلّابها، ويُركبهم الخيلَ والبغال المزيّنة، ويصرفون لهم ولمؤدِّبيهم ومعلِّميهم الأموال الطائلة، ويُجرون عليهم الأرزاق والهدايا السنيّة والجوائز العليّة.. (من يريد الأمثلة والنماذج فليعد لوثائق الأوقاف وكتب التاريخ عموما وتاريخ المدارس العلمية خصوصا).

 

فخلف من بعد أولئك خلْفٌ كانوا عناوينَ مُعوجّةً، معبِّرةً عن حجم نكبتنا ورداءة الطغيان الذي ابتُلينا به، فوجدوا في العلم ومعالمه، والتربية ومعاهده عدوَّهم الأوّل، وحسبوا انتشار الخير ودعوة الإصلاح قدحا في "عزهم" وسلطانهم.

 

مركز تكوين العلماء الذي عرفته

يضمّ المركز في مراحله [الإعدادية، الثانوية، الجامعيَّة (طلّاب – طالبات)، التخصّص] وفي أقسام التمهيدي، والإجازة، والأئمّة والدعاة، وقسم الدورات المكثَّفة.. إلخ يضمّ أكثرَ من خمسمائة طالب يُمثِّلون موريتانيا بأعراقها وجهاتها، وأقطارَ العالم من آسيا، وأوربّا وإفريقيا، يوفِّرُ لهم المركزُ السكنَ والإعاشةَ، والدواءَ والمنحةَ..، ويدرِّسهم سائر المعارف والعلوم الشرعية واللغوية، ويقوِّم سلوكَهم ويتعاهد نفوسهم بالتزكية، ويرعى أخلاقهم بالتربية حفاظا على الفرائض والرواتب، وقياما وصياما ووعظا وإرشادا..

 

يقوم على التدريس والتربية في مركز تكوين العلماء جمعٌ من العلماء الأجلّاء والأساتذة الفضلاء، فيهم شيوخ المحاظر، والقضاة السابقون والأساتذة الجامعيون، والإداريُّون الذين تولَّوا إدارات في وزارات ومؤسّسات جامعية رسمية، فقدّموا النموذج الأروعَ نوعيةً في الإنجاز، وأمانة في الأداء (وزير الشؤون الإسلامية يعلم ذلك!)..

 

يُدير المركز طاقَم من الدكاترة والمشايخ من ذوي الكفاءة والتجربة، استطاع أن يزاوج بين البرنامج المحظريّ [النصوص والمتون العلميّة فهما وحفظا] والمنهاج الأكاديميّ [تدريسا واختباراتٍ وبحوثا..] فكان المركزُ تطويرا راشدا للمحظرة الشنقيطية، وأدواتها..

 

مع هذا يوظِّف المركز عشراتٍ من الإداريّين والإعلاميين والحرّاس.. إلخ ويجدون فيه مع العمل الذي يؤمّن المعاش البيئة العلمية والتربوية المعينة على الخير، واكتساب الخلق الحميد..

 

أعاد المركز إلى الأذهان ما عُرف به الشناقطة من الموسوعية وقوَّة الذاكرة، وعبقرية الحفظ والاستحضار.. فهو "المحظرة" الوحيدة اليوم في البلاد التي تلقاك في حُجُراتها المباركة مجالس التفسير وصحيح البخاريِّ والشاطبية والمختصر والألفيات.. ومجالس النقاش في النوازل الفقهية المعاصرة، إلى جانب اللغات والمعلوماتية، ودورات التطوير والشعر والخطابة.. إلخ.

 

تجد من بين طلّاب المركز العبقريّ الفذ الذي يًسمعك الألفياتِ دون تلعثم، وتسمعك الصّيِّنةُ مختصر أبي المودّة والجمع بين الصحيحين بإتقان يندُرُ في "المشيخة" المحيطة بالرئيس تزَيِّن له سوءَ عمله.

 

وهذا غيض من فيض ونزر من كثير إن شئت أن تعرفَه فتعال وعاينه فالكتاب – كما يقول الجاحظ - لا يصوّر لك كل شيء، ولا يأتي لك على كنهه وحقائقه.

 

ما الذي تغيّر

لم يبدِّل رئيس المركز الشيخ الددو في منهجه، ولم يغيِّر في دعوته، وسعيه لما يُصلح البلاد، وينفع العباد..

 

فالشيخ الذي كان وزير الشؤون الإسلاميَّة الحالي يتأبّط دفترَه مُصغيا إليه في جنبات المركز، ومستمتعا بعلم وكتب ورجال ما كان يعلمها من قبل ذلك، وكان يذرع نواكشوط باحثا عن طريق توصله لتزكية منه.. لا يزال كما عهده.

 

والشيخ الذي كان رئيس الجمهورية ينتشي بظهوره إلى جانبه وباستقبال ضيفه المُكرَمين، ويلتمِس دعاءَه ورقيتَه حين تخلّى عنه "الأصدقاء"، و"يضرب" في وجوه طالبي التمويل من دعاة "الوسطية" المزيَّفة بـ(الوسطية هي ذَا الِّ يدعو له ول الدّدو؟).. لا يزال هو كما عهده.

 

والشيخ الذي قدّم برؤية ثاقبة مقترَح الحوار مع السجناء السلفيّين، وحاور سجناء كثيرا في دول عديدة فكان ظهيرا لها من خطر الغلوّ والفتنة.. وجاءت الأمم المتَّحدة تبحث عن معالم رؤيته في ذاك المجال.. لا يزال كما كان لم يتغيّر ولم يتبدّل.

 

والمركز الذي تأسّس على التقوى والعلم والتربية.. من أوّل يوم لا يزال على العهد والوعد.

 

ولكنّ "المزاج" السلطويّ تغيّر يوم أيِس من استمالة الشيخ القرآنيّ الأغرّ.. "تعكَّر" المزاج السلطويّ يوم رأى تأثير الشيخ ومشروعه الإصلاحيّ يتمدّدُ في الآفاق، ويلتفّ حوله شعبٌ أضغنه الظلم وملَّأه الحرمان والإفساد غيظا فبات يتشبّث بكل داعية إصلاح.

 

وبعد فلكلِّ ذي لبّ أن يتساءل:

- ما الذي سيقوله مغلقو مركز تكوين العلماء لخمسمائة من الطلّاب والطالبات من موريتانيا وأرجاء الدنيا راهنوا على المركز ولمحوا معالم مستقبلهم فيه، وتفرّغوا لبرنامج علميّ عريض توفّرت لهم كلّ الوسائل المعنوية والمادّية لإتقان تحصيله، فوجدوا أنفسهم بـ"جرّة" قلم من سلطة كدَّرت "صفوَها" جموع العلم والتربية المصطفَّة حول الشيخ الددو في مركزه، وأزعجتها الأنوار المشعَّة حسدا وبغيا.. وجد الطلّاب أنفسهم وكأن قد تلاشت تلك الأحلام الجميلة بمستقبل مشرق كانوا ينتظرونه وآباؤهم وأمهاتهم وذووهم..؟؟

- ما الذي سيقول مغلقو المركز لعشرات من الأساتذة والموظَّفين الإداريين، وعشرات من الحرّاس والعمّال.. يعيلون أسرا ويرعون بيوتا وكان لهم المركز خيرَ معين؟

 

أعرف أنّ من لم يعدَّ الجواب لأسئلة تنتظره عند خالقه فلن يرفعَ رأسا بأسئلة من شعبه!