على مدار الساعة

موريتانيا تصدر الكهرباء.. وتعيش في الظلام

20 يونيو, 2016 - 11:27

دخلت والدة خديجة* إلى المستشفى مصابة بغيبوبة. وكان التشخيص أنها اصيبت بتسمم نتيجة تناول مادة كيماوية. ولم تجد الأسرة في قائمة مأكولات الأم العجوز أي مواد كيماوية يمكن أن تكون سببا للتسمم. وفجأة ثارت الشكوك حول الانسولين الذي تتعاطاه لعلاج مرض السكر.

إعداد: مريم فاضل عباس

وتذكرت الابنة أن العلاج كان محفوظا في ثلاجة تعرضت مرارا لانقطاع الكهرباء مما أدى لفساد مأكولات بسبب ارتفاع الحرارة، وهو ما تحرص الصيدليات على تلافيه بوضع كيس مثلج مع الانسولين المباع لضمان سلامته حتى الوصول إلى المريض. واصطحبت معدة التحقيق الابنة إلى المعمل لتظهر التحاليل فساد الانسولين وتحوله إلى مادة سامة.

الأنسولين يحتاج التبريد الدائمالأنسولين يحتاج التبريد الدائمولم تكن الأم العجوز هي الضحية الوحيدة لانقطاع الكهرباء الذي أصبح مشكلة يومية في موريتانيا تتسبب في خسائر هائلة للسكان دون أن يروا تحركا ملموسا لحل المشكلة. وكانت المفارقة صارخة حين وافقت موريتانيا على بيع كهرباء للسنغال.

 

نواكشوط ودوام انقطاع التيار الكهربائي

وتعاني مدينة نواكشوط منذ ٢٠٠٨ من انقطاعات متكررة ومزمنة عانى منها المواطن الأمرين وتلفت مواد غذائية وفسدت أدوية وتعطلت الحركة التنموية القاعدية بتوقف ورش ومصانع ومجازر ومتاجر أسماك ودواجن وأيضا متاجر خضروات وفواكه.

 

ولجأ العديد من المواطنين إلى اقتناء مولدات للطاقة خاصة سكان الأحياء الراقية والصيدليات الكبيرة والمصحات الخصوصية وأصحاب المتاجر الكبيرة، مما صاحبه بالتالي ارتفاع كبير في أسعار تلك المولدات.

 

ومند بداية اكتوبر 2014 تزايد معدل الانقطاعات في العاصمة واستمرت في بعض الأحياء لأكثر من 24 ساعة. وقتها أرجع المتحدث الرسمي باسم شركة الكهرباء الوطنية “صوملك” السبب إلى حريق في محطة كهرباء رئيسية في منطقة عرفات ما أدى إلى تعطلها بشكل كامل، ونفت الشركة أي علاقة بين الانقطاعات وتصدير الكهرباء للسنغال.

 

أسبوع من الظلام حينئذ أدى إلى خسائر كبيرة في الممتلكات خاصة وأنه كان قبل عيد الأضحى بأيام قليلة.

 

محمد عبد الله ولد سيدي احمد يملك محلا تجاريا بحي كرفور يقول “بعد انقطاع الكهرباء عن الحي لمدة 12 ساعة في هدا الجو الحار خسرت كل ما كان موجودا في البرادات الثلاث من دجاج ولحم مفروم ..وأصبح من نصيب القطط .. وبعد يومين ذهبت لمتجر لبيع المولدات فوجدت ثمنها قفز إلى ثلاثة أضعافه.. فتنازلت عن المحل بنصف سعره لقريب لي يستطيع شراء مولد يعوضه عن إنارة شركة فاشلة.”

 

خت بنت سيد محمد تملك مجمعا تجاريا في نواذيبو  (465 كم شمال غربي نواكشوط) تقول إن الإنقطاعات المتتالية للكهرباء عن المدينة تكلفهم الكثير من الخسائر وخاصة انقطاع العاشر من سبتمبر 2015 لمدة 14 ساعة والذي أدى لخسارتها معظم تجارتها من المواد الغذائية واللحوم والأسماك.

 

ووصلت الشكاوى إلى جمعية حماية المستهلك. فالطالب ابراهيم ولد الطالب الذي يعيش في منطقة عرفات في نواكشوط يدير موقعا الكترونيا إخباريا، وقال في شكوى بعث بها لجمعية حماية المستهلك الثلاثاء الثامن من فبراير 2011 "لقد أصابتني كثرة انقطاع الكهرباء بنوبة اكتئاب، وكلفني التنقل بين المقاطعات بحثا عن الكهرباء لإكمال عملي الكثير، هذا بالإضافة إلى تأخير تحقيق كانت الشرطة تجريه معي حول جمعية ثقافية تنموية أريد ترخيصها، فلم أتمكن من تقديم شيئ من الملف نظرا لكثرة انقطاع الكهرباء، وهنا أسجل الدور المخزي الذي تقوم به الشركة المذكورة في توفير مادة الكهرباء، وأضع كافة المسؤوليات أمام جمعية حماية المستهلك".

 

حتى المستشفيات تعاني

يوم 14 مايو 2015 انقطعت الكهرباء عن مستشفى الشيخ زايد أكبر مستشفيات العاصمة من الساعة السابعة صباحا، وزاد الطين بلة حين تعطل المولد الوحيد في المستشفى بعد ست ساعات من انقطاع الكهرباء لتنقل  ثلاث عمليات حرجة منها عمليتا ولادة قيصرية، والثالثة عملية إزالة حصى من المرارة. إلى مركز الإستطباب الوطني والذي يبعد بحوالي خمسة كيلومترات.

 

وفي صباح اليوم التالي تجمهر الأهالي أمام وزارة الصحة محتجين ومطالبين الوزارة بتوفير بديل دائم للمستشفى عن خدمة الكهرباء غير المنتظمة. وبعد ساعات اعتذرت شركة الكهرباء رسميا عن الإنقطاع.  وأرجع الناطق بإسمها دحان ولد الطالب عثمان سبب الإنقطاع إلى بعض الأعمال غير التابعة للشركة. كانت تقوم بها شركة أجنبية مسؤولة عن توسعة شبكة المياه بمقاطعة توجنين شرقي العاصمة، وهي من الشركات الأربع التي ربحت مناقصات توسعة شبكة المياه في نواكشوط والتابعة لمشروع آفطوط الساحلي.

 

مستوى تدريب عمال الشركة

يوم العاشر من يوليو 2015 وفي شهر رمضان انقطعت الكهرباء من الثالثة ظهرا وحتى الخامسة من مساء اليوم التالي. وقال الناطق باسم الشركة ولد الطالب عثمان إن سبب العطل هو تفريغ أحد العمال لصهريج مياه بدلا من صهريج وقود في خزان في محطة الإنتاج المزدوج البالغة قدرتها 120 ميجاوات. وأضاف أن هذا الخطأ استدعى توقيف المحطة، وتنظيف الخزان بشكل كامل مما أثار تساؤلات عن مستوى تدريب عمال الشركة وظروف عملهم.

 

وقال العامل في الشركة السيد عسمان* (25 عاما) إن العمال ضحية فلا الراتب يسمن أو يغني عن جوع ويبلغ متوسطه 35 ألف أوقية (حوالي 60 يورو) ولا يوجد اكتتاب للعمالة وبالتالي تبقى غير رسمية كما أنهم يتعرضون للخطر دون تعويضات مناسبة. وأضاف أن زميله سالم كان يوصل الكهرباء لأحد البيوت في لكصر شمالي نواكشوط ليفاجأ أثناء عمله على عامود كهرباء بعودة التيار الكهربي لتصيبه صدمة كهربية أمضى بعدها شهرين في غيبوبة ثم اصيب بشلل نصفي. وأنهت الشركة خدمته مع صرف شهرين.

 

غياب الامن الصناعي

وخلال الفترة من 1994 إلى 2004 زاد الطلب على الكهرباء في نواكشوط بنسبة 20 في المئة.

وقال المدير العام للشركة آنذاك الدكتور محمد عالي ولد سيد محمد إن قرار الدولة بشأن خصخصة الشركة، كان القشة التي قصمت ظهر البعير حيث عانت الشركة في الفترة من 1998 إلى 2004 من عجز مالي نتج أساسا من امتناع الدولة عن  الاستثمار في الشركة خوفا من انتقال ملكيتها لآخر وخسارة الدولة لما استثمرت. وأضاف أن ذلك أدى إلى عجز شبه تام في الإنتاج بسبب توقف مولدات عن العمل نتيجة لانعدام الصيانة، كما أن الشبكة المتهالكة أصلا عانت هي الأخرى من انعدام الصيانة طيلة هذه المدة.

 

وألغت الدولة خصخصة الشركة بعدما لم تتلق عروضا سوى من المكتب المغربي للكهرباء والذي كان عرضه دون السعر المحدد من البنك الدولي.

 

ويبلغ رأسمال الشركة الموريتانية للكهرباء 66 مليارا و343 مليون أوقية (حوالي 213 مليون دولار) تمتلكه الدولة بنسبة 100% حسب النشرة السنوية للشركة.

 

ومنذ 12 سنة تغطي الدولة العجز في الميزانية السنوية لكن في 2015 لم تقدم دعما للشركة نظرا لتقليص العبء على ميزانيتها بسبب هبوط أسعار المحروقات.

 

وتبلغ ميزانية قطاع الانتاج سنويا 300 مليون أوقية (حوالي 962 ألف دولار) مقابل 139 مليون أوقية (حوالي 445.5 ألف دولار) سنويا لقطاع الصيانة.

ويقول براهيم ولد سيدي المختار وهو من أوائل العمال الفنيين في الشركة إن الصيانة تنقسم إلى نوعين:

ـ صيانة محطات الانتاج

ـ صيانة الشبكة التي تنقسم بدورها إلى صيانة المعدات وصيانة الكابلات.

ويضيف “نحن لا نقوم بالصيانة وإنما نقوم بإصلاح ما تعطل وذلك بسبب العجز في الكادر البشري الفني…. لأن كل العمال يتجهون إلى القطاع التجاري بالشركة… كما أننا تنقصنا الآليات للصيانة.”

 

الانتاج والطلب

والمفارقة أن انقطاعات الكهرباء في موريتانيا لا ترجع إلى نقص في الانتاج. ففي عام 2009 بلغت القدرة الإنتاجية المركبة 48 ميجاوات في حين كان الطلب على الكهرباء 70 ميجاوات. وفي عام 2015 ارتفعت القدرة الانتاجية إلى 480 ميجاوات في حين بلغ الطلب 100 ميجاوات.

 

المهندس في وزارة النفط والطاقة الموريتانية “الوزارة الوصية على الشركة”  الطالب اخيار ولد عبداتي يرى أن الدولة تملك من الطاقة ما فاق الطلب حتى تم تصدير جزء منها إلى السنغال حيث يتم توفير 80 ميجاوات ابتداء من مارس 2015 بسعر التكلفة ويبلغ 55 أوقية للكيلو وات (حوالي 0.18 دولار) في المرحلة الأولى من المشروع، ومن الممكن زيادة هذه القوة إلى 120 ميجاوات إذا سمحت بذلك الظروف الفنية لنقل الطاقة.

 

اتهامات متبادلة

ومع وفرة الانتاج، يلقي رئيس مصلحة الصيانة السيد محفوظ ولد اعل مولود  بمسؤولية الانقطاعات على أطراف خارج الشركة. وقال إن أعمال الحفر التي يقوم بها كل من مشروع آفطوط الساحلي لتجديد شبكة المياه بنواكشوط ومشروع إنشاء صرف صحي بالعاصمة عليها “المسؤولية كاملة”.

 

مشروع افطوط الساحلي هو مشروع تبنته الحكومة الموريتانية في اطار الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفقر، ومن أهم محاورها توفير الماء الصالح للشرب بما يشمل ربط العاصمة نواكشوط  بنهر السنغال عن طريق انابيب عملاقة بطول 200 كيلومتر.

 

لكن المدير الفني لمشروع أفطوط الساحلي سعد بوه  رد على الاتهامات بأن شركة الكهرباء لم تقدم خرئط لشبكة الكابلات بما يساعد على الحفاظ عليها أثناء أعمال الحفر. وقال “نحن نتعامل مع أربع شركات ربحت مناقصات لتجديد شبكة المياه واشترطنا على كل شركة أن تتعامل مع المؤسسات التي تملك كابلات أرضية حتى تعطيها خارطة كابلاتها كي لا تتسبب في أي نوع من الخسائر.

 

وأضاف أن شركة الكهرباء اعتذرت بأنها لا تملك خرائط لكابلاتها، فطلبنا منهم تخصيص عمال من الشركة للارشاد عن أماكن الكابلات لكن المشكلة أن عمال الشركة لا يعرفون أماكن كابلاتها.

 

  ويرى المهندس ولد عبداتي أن مشاكل الكهرباء ترجع إلى تهالك الشبكة ووجود مخالفات في الشركة منها صفقات التراضي التي تبرمها رغم أن القانون يمنع ذلك إلا في الحالات الطارئة. وأضاف أن الحل يجب أن يكون نابعا من داخل الشركة.

 

تقارير الرقابة

قال محمد غلام ولد الحاج الشيخ عضو البرلمان عن حزب تواصل إن صفقات التراضي لتوريد المعدات للشركة هي السبب في مشكلة انقطاع الكهرباء. وحمل النائب عن مقاطعة واد الناقة الواقعة على بعد 50 كيلومترا شرقي العاصمة الشركات الموردة للكابلات المسؤولية بالتواطؤ مع شركة الكهرباء الموريتانية.

 

الرقابة على شركة الكهرباء تمثل علامة استفهام إذ لم تصدر المفتشية العامة للدولة، وهي الجهاز الرقابي  المالي على الوزارات والمؤسسات العمومية، تقريرا رسميا عن شركة الكهرباء رغم زياراتها المتكررة للشركة.

 

وأشار التقرير الرسمي لعام 2013 الصادر عن سلطة تنظيم الصفقات العمومية في موريتانيا إلى وجود مخالفات قانونية في عشرات الصفقات العمومية من بينها 26 صفقة أجريت بطريقة التراضي المباشر، ولم تراع الإجراءات القانونية.

 

ومن بين 17 شركة عمومية أجرت صفقات مخالفة في ذلك العام جاءت ثلاث مؤسسات في المركز الأول برصيد 10 صفقات لكل منها في حين جاءت أربع شركات في المركز الثاني برصيد تسع صفقات لكل منها وكان من بينها الشركة الوطنية للكهرباء (صوملك) حسب التقرير.

 

وفي 2014 خالفت الشركة قانون المناقصات الموريتاني بعدما قامت بتغيير شروط المشاركة في مناقصة بناء الخط الكهربائي الرابط بين نواكشوط ونواذيبو بطاقة 220 كيلوفولت بعد فتح وتقييم العروض المقدمة من الشركات بعدما طلب ممثلون للصندوق السعودي للتنمية أن تكون المناقصة حكرا على الشركات السعودية أو الشركات ذات الشراكة مع شركة سعودية، وهو ما توافر في 3 فقط من أصل 47 شركة مشاركة.

 

مواجهة المسؤولين

توجهنا بالسؤال عن اسباب الإنقطاعات المتكررة إلى المتحدث باسم الشركة دحان الطالب عثمان والذي استنكر تبادل الاتهامات بالمسؤولية بين رئيس قطاع الشبكة الكهربائية وشركات المياه. وقال مستاء إن هذه مؤسسات تابعة للدولة ولا يجب أن يكون بينها مثل هذه الاتهامات.

 

وأضاف أنه قبل 2014 كانت الانقطاعات في نواكشوط عن قصد لتخفيف الأحمال على الشبكة وتوفير الخدمة للكل. وقال إنه كان من المفترض ابتداء من يونيو 2015 أن تنتهي مشكلة الإنقطاعات لكن لم تنته أعمال شركة سوجلك SOGELEC المغربية التي ربحت مناقصة لتوفير الكابلات لتعميم دارة كهربائية تربط بين جميع المحطات. وأضاف أن التأخير هو سبب في الإنقطاعات شبه اليومية في العاصمة.

 

وكانت شركة الكهرباء في يونيو2015 اعتذرت في بيان عن الانقطاعات المتكررة وقالت إنه لتفادي مثل هذه الأمور بشكل مُستدام، تقوم الشركة بإنجاز مشروع كبير لتعزيز وتنمية قدرات تفريغ وتوزيع الطاقة الكهربائية أصبح في طوره النهائي.

 

وأضافت أن الاحتياجات تمت تغطيتها على نطاق واسع، خاصة بفضل بناء أربع محطات كهربائية جديدة خلال السنوات الأربع الماضية بطاقة إجمالية تبلغ 201 ميجاواط إضافية في حين تصل ذروة الطلب في مدينة انواكشوط حواليْ 100 ميجاواط.

 

حاولت معدة التحقيق الحصول في يناير الماضي على رد من الشركة المغربيةsogelec  عن طريق البريد الالكتروني وبعثت ثلاث رسائل إلى السيد ميشيل بوسكيله، مسؤول الاتصال بالشركة حسب موقعها على الانترنت، والذي اتصل بمعدة التحقيق هاتفيا ووعد بالتواصل خلال اسبوع اثناء زيارة لنواكشوط، وهو ما لم يحدث. ولم يمكن الحصول على رد حين اتصلت معدة التحقيق على نفس رقم الهاتف مما يبقي دائرة توزيع المسؤولية مفتوحة. وبدون تدخل حكومي جاد للمحاسبة ستبقى هذه الدائرة مفتوحة وستستمر معاناة الموريتانيين من انقطاع الكهرباء رغم أن بلدهم يصدرها إلى السنغال المجاورة.