على مدار الساعة

إفلاس المنظومة التعليمية

16 يناير, 2018 - 15:03
لحبيب ولد برديد/ أستاذ باحث و محلل استراتيجي

يعاني قطاع التهذيب الذي يعتبر مرتكز مستقبل الأمة -باعتبار الدور الأساسي للمدرسة في مستقبل المواطنين -من الكثير من الأزمات منذ عقود طويلة.

 

فقد شكل تراكم الثغرات و النواقص البنيوية في المنظومة التعليمية بالإضافة للسياسات التعليمية الفاشلة التي تبنتها الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد (و العسكرية تحديدا) شرخا كبيرا عمق من تدني العملية التربوية، رغم الإصلاحات التي تم اتخاذها في هذا الصدد.

 

و ما فتئت المنظمات الدولية،بما فيها المنتدى الاقتصادي العالمي و اليونسكو تدق ناقوس الخطر حول وضع التعليم بموريتانيا التي تأتي دوما في ذيل قائمة التصنيف بخصوص الحالة التعليمية في منطقة يعتبر التعليم فيها الأكثر تدنيا.

 

إن هذا المقال يأتي لمعالجة الحالة الكارثية للتعليم لعلها تقدم حلولا و تصورات تسهم في تلمس حلول للإشكالية التعليم. و لن استغرق في الموضوع بشكل مفصل كالتوقف عند جوانب رئيسية تتعلق بالتكوين المهني و ظاهرة اكتظاظ الفصول و ظاهرة تغيب المعلمين و التسرب المدرسي، و إنما سأتوقف في المعالجة على أسئلة جوهرية تشكل إثارة رئيسية للموضوع، من قبيل:

 

-ما هي الميزات الخاصة لمنظومتنا التعليمية؟

 

- ما هي أسباب الأزمة العميقة التي يترنح فيها التعليم؟

 

-كيف ننتشل العملية التعليمة من حلقة التردي المفرغة؟

 

منذ 40 سنة و العملية التعليمية حبيسة حلقة مفرغة من الممارسات الضارة، رغم الدور المحوري للعملية التربوية في مسار التنمية. فلقد ظل ناقوس الإنذار مدويا حول وضعية التعليم رغم الجهود المبذولة و الأموال التي تم رصدها على مدار الأعوام الأخيرة.

 

الأسباب الجذرية لأزمة المنظومة التعليمية

إن فشل التعليم يعود في المقام الأول لفشل السياسيات و التخطيط التي صاحبت العملية التربوية، و من المفيد التذكير أن بداية أزمة المنظومة التعليمية بدأت مع وصول العسكر للسلطة سنة 1978، و تتحمل التيارات القومية الشوفينية، المتخلفة، و ذات الأفق الضيق،و التي تحالفت مع العسكر دورا رئيسيا في هذه الأزمة نظرا للضغط الذي كانت تمارسه على تلك الأنظمة العسكرية.

 

 

إن ما تبقي من المنظومة التعليمة قليل بسبب التغييرات الإصلاحية الكاريثية، و التي كان أكثرها كارثية الإصلاح التربوي الذي اتخذه العسكر سنة 1979، و الذي بموجبه تم إقرار نظام تعليمي ثنائي، بدلا من النظام الموحد الذي كان قائما. و تقوم فلسفة هذا النظام على خلق مدرستين متعارضتين ثقافيا(المدرسة الفرنسية و المدرسة العربية)، خلافا للموجود في بلدان أخري حيث يخضع الجميع لنمط تعليمي موحد، و في نفس الظروف.

 

 

و قد ساهم هذا النظام التعليمي في تأجيج الصراعات الثقافية و ولًد فوارق اجتماعية بين الموريتانيين، لذا فليس من المبالغة الجزم أن أجيالا كاملة من هذا الشعب راحت ضحية هذه المنظومة التعليمية.

 

 

بعد تطبيقات هذا النظام الفاشل تم الانتقال إلي تطبيق نظام آخر، ليس أقل سوءا من سابقه، و ذلك بإعلان النظام المخلوع عن نظام التعليمي الإزداوجي سنة 1999 ، و لا تخطئ العين اليوم النتائج السيئة لهذه المنظومة التعليمية التي أنتجت تلاميذ يعجزون عن قراءة الفرنسية بشكل صحيح في المرحلتين الأساسية و الإعدادية.

 

 

و لم يكن النظام الحالي بمعزل عن الأنظمة السابقة في مجال التخبط للنهوض بالمنظومة التعليمية، فقد أعلن الرئيس سنة 2015 سنة للتعليم و رصد ميزانية معتبرة نسبيا و قام ببعض الجهود الإصلاحية، إلا أن جهد الحكومة بقي حبرا على ورق، ثم جاءت نتائج الباكلوريا لنفس العام (نسبة نجاح 5%) ، رغم الغش لتؤكد أن حالة التعليم في وضعية يرثي لها.

 

 

إن هذه السياسيات المتعاقبة زادت من تردي وضعية التعليم فلم تعد المدرسة الموريتانية مكانا للتأهيل الأيديولوجي، كما أنها أصبحت أكثر انغلاقا و أقل انفتاحا بسبب إهمال اللغات الأجنبية و ضعف حضورها في المنظومة التعليمية.

 

 

و تستدعي هذه الوضعية عمل المزيد من اجل إصلاح جذري للمنظومة التعليمية، و ذلك بوضع برنامج استعجالي حقيقي يجعل التعليم في سلم أولوياته.

 

 

نجاح المدرسة..ضرورة وطنية

 

من الوارد الإشارة إلي أن عيوب المنظومة التعليمية تطرح تحديا في غاية الخصوصية، و عليه من الجوهري أن يتم استناد الملف لشخص يتمتع بصفات استثنائية و يتملك رؤية حقيقية باعتبار أنه المسئول عن صياغة مستقبل أمة.

 

 

إن الدور الأساسي الذي ينبغي أن تتطلع به المدرسة يتمثل في تكوين رجال و زعامات الغد القادرين على اتخاذ القرارات التي تتعلق بهم، لأن التنمية في النهاية هي قضية مرتبطة بالعقليات.و عليه يجب أن يكون تعليمنا أكثر انفتاحا على المستقبل، حتى و إن كنا نعيش في مجتمع متصالح الماضي في الكثير من واقعه الاجتماعي.

 

 

لا مجال طبعا لقطيعة مع الماضي و تراثه، لكن إذا علمنا أن الحاضر بأيدي من يمتلكون الاقتصاد القوي، فإن المستقبل سيكون بأيدي من يكونون أبنائهم في أحسن المدارس. و تعتبر السويد و اليابان ، الدولتان اللتان لا تمتلكان مساحات شاسعة و لا موارد اقتصادية، خير دليل على هذا القول. لذا علينا أن نجعل المدرسة أحسن رافعة لإطلاق مشروع مجتمع يحدد شكل موريتانيا الغد التي نطمح لها كأمة و قومية و هوية.

 

 

ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه و يتمثل في تجاهل وضع ميثاق وطني للتربية و الذي سيوفر بنية للخبرات و يكون بمثابة مختبر حقيقي للتفكير من اجل استدراك التأخر الكبير الحاصل في مجال التعليم على مدار العقود السالفة، و سيساهم هذا الميثاق في تعبئة كل الجهود من اجل وضع منظومة تعليمية ذات جودة و كفاءة.

 

 

من اجل مجلس اعلي للتعليم

بالله عليكم كيف تفسرون غياب مجلس اعلي للتعليم يعني بالحكامة في هذا المجال كما هو حاصل في بلدان أخري، و ذلك في الوقت الذي تنتشر فيه في المقابل ثقافة المجالس التي لا فائدة منها في هذا البلد كالمجلس الأعلى للشباب ، و المجلس الاقتصادي الاجتماعي(الذي لم يجتمع و لو لمرة واحدة)، و المجلس الأعلى للقضاء(الذي لا يتمتع بأية استقلالية)، و المجلس الوطني لأرباب العمل(الذي لا يهمه سوي المصالح الخاصة).

 

أن الدور الذي يجب أن يقوم به المجلس الاعلي للتعليم يجب أن يكون دورا استشاريا بالإضافة للسهر من الناحية المؤسسية على آليات نظام تعليمي يتمتع بصفات الجودة و الكفاءة.

 

إن هذه الهيئة في حالة اعتمادها يمكن أن تنجح في إرساء مدرسة الغد، و التي هي ضرورة وطنية، يجب التأسيس لها عبر مشروع إصلاحي وفق خطة استعجالية.

و في الأخير من المناسب التنبيه على أن هذا الجهد الذي يتطلب مشاركة جميع الفاعلين في العملية التربوية من سلطات رسمية و جهات مانحة و معلمين و نقابيين ، يتطلب أيضا نفسا طويلا للوصول إلي الغايات ، بنفس الدرجة التي تتطلبها محاربة الفقر و إرساء الحكامة والتناوب السياسي.